الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] [فصل]

قال تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا [مريم :58] ، وقال تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير [البقرة :285] .

وفي الحديث الصحيح أنه لما أنزل الله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة :284] ، شق ذلك عليهم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال اليهود أو أهل الكتاب : سمعنا وعصينا ، قولوا : سمعنا وأطعنا » ، فقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما ذلت بها ألسنتهم أنزل الله الآية الأخرى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى قوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : قد فعلت . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : قد فعلت . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به كذلك إلى آخرها . [ ص: 150 ]

فهؤلاء المؤمنون لما سمعوا وأطاعوا خفف عنهم وحط عنهم الإصر الذي حمل على من كان قبلهم ، وأولئك لما عصوا واعتدوا وقالوا : قلوبنا غلف ، قال تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [النساء :160] ، وقال تعالى : ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [الأنعام :146] ، ثم قال : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك [النساء :162] . إذ قد أخبر أن منهم من لا يعلم الكتاب إلا أماني ، ومنهم من يحرفه من بعد ما عقله ، ومنهم من يكذب ويكتم ويلوي لسانه ويكتب بيده ، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وهؤلاء وإن ذكر لهم علم فليسوا براسخين في العلم ، إذ الرسوخ في العلم يقتضي الثبات والاستقرار فيه ، وذلك مستلزم لاتباعه والعمل به ، كما قيل : العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل .

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبينا تلازم العلم التام والعمل ، وأنهما حيث لم يتلازما فلضعف العلم ، مثل علم الرواية باللسان . وفي مراسيل الحسن : «العلم علمان ، علم في القلب وعلم على اللسان ، فعلم القلب العلم النافع ، وعلم اللسان حجة الله على عباده » . [ ص: 151 ]

وقال تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، وما يذكر إلا أولو الألباب [آل عمران :7] . وقد يحتج من يقف عند قوله : والراسخون في العلم كمجاهد وابن قتيبة ، ويذكر رواية عن ابن عباس ، على ذلك بأنه سبحانه لم يقل هنا : «والمؤمنون والراسخون في العلم يقولون آمنا به » كما قال في تلك الآية : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك الآية . فلو لم يكن المقصود بالآية إلا الخبر عنهم بأنهم قالوا : آمنا به ، لأخبر بذلك عن جميع المؤمنين كما في نظائره ، مثل قوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء :82] ، وقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التوبة :124 - 125] .

وقد يجيب الجمهور الذين يقفون عند قوله : إلا الله وقد نقل هذا المعنى عن أبي وابن مسعود وابن عباس وعائشة والجمهور ، بأن هذا الموضع كقوله في سورة الحج : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ، والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، وإن الظالمين لفي شقاق [ ص: 152 ] بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [الحج :52 - 54] ، فإنه ذكر الذين أوتوا العلم هنا فقط ، كما قال هناك : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا .

وإنما ذكر أهل العلم في هذين الموضعين لما فيه من الشبهة بما ألقاه الشيطان في أمنيته وما نزل [من] المتشابهات ، فكأن الخبر بالإيمان وأن الجميع من عند الله عن أهل العلم دليل على بطلان الشبهة والعلم بأنه لا حقيقة له ، ولا مانع أن يكون إذا قال هذا من هو راسخ في العلم أن لا يقوله غيره . يبين ذلك أنه على الوقفين إنما أخبر بقولهم فقط مهنئا بهم اختصوا بعلم تأويل القرآن ، وأخبر بقول : آمنا به كل من عند ربنا عنهم وحدهم ، مع أنه قول كل مؤمن ، إذ المقصود أن العلم يوجب هذا القول ، ومن لم يقله وإن كان له نصيب من العلم فليس براسخ فيه . فاليهود الذين أوتوا العلم فلم يؤمنوا بمحمد إيمانهم ليسوا راسخين في العلم .

وأما تلك الآية فإنما قال : لكن الراسخون في العلم منهم أي من أهل الكتاب والمؤمنون هم المؤمنون من العرب وغيرهم الذين ليسوا أهل كتاب ، فإن هؤلاء وإن كانوا بعد مبعث محمد صاروا أو بعضهم أرسخ في العلم من أولئك ، فإنهم لم يكونوا قبل سماع القرآن أهل علم بالكتاب ، كما كان عند أولئك علم علموه من غير القرآن . [ ص: 153 ]

وقد يقال : الوقفان كالقراءتين ، وقد يقرأ في المكان الواحد بالنفي والإثبات باعتبارين ، كقراءة من قرأ لتزول و لتزول منه الجبال ، وكالتي فيها الخبر والأمر . وعلى هذا فيكون هنا تأويلان : فتأويل يعلمه الراسخون ، وتأويل لا يعلمه إلا الله ، وهذا فيه جمع بين أقوال الصحابة والتابعين والأئمة رضي الله عنهم .

وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع وذكرنا أن معنى لفظ التأويل الذي جاء به القرآن غير معناه في عرف المتأخرين ، وذكرنا الاصطلاحات فيه والفرق بينه وبين التفسير . وللإمام أحمد كتاب «الرد على الزنادقة والجهمية مما تأولت فيه من متشابه القرآن » ، تكلم على الآيات كلها وبين معناها ، فمعنى الخطاب وتفسيره يعلمه العلماء ، وهذا يسمى تأويلا ، وأما الحقائق الموجودة في الخارج مما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر ، كما قال : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [الأعراف :53] ، فتلك لا تعلم إلا بمشاهدتها . . . . . . . . . وليس لها في هذا العلم ما يناظرها من كل وجه ، فلا يعلم حينئذ إلا من بعض الوجوه ، فيجوز أن يكون لا يعلمه ، قال تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة :17] ، وإن علم أنها قرة أعين فإنها لا تعلم في الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية