الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أخد الميثاق عليهم وعلى الإنسانية

                                                          وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون

                                                          ميثاقان يذكرهما الله تعالى، واحد منهما خاص ببني إسرائيل؛ لأنه يتعلق بميثاق التوراة، والثاني يتعلق بميثاق الإنسانية كلها.

                                                          والأول قال الله تعالى فيه: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم

                                                          [ ص: 3002 ] نتقنا معناها رفعنا، ولكن يظهر أنها لا تكون إلا في رفع الثقيل الذي لا يستطيعه إلا الأقوياء، فمن الألفاظ العربية ألفاظ تحمل في نفسها قوة المعاناة في دلالتها، فلا نقول: نتقت العصا، أو نتقت السيف، ولكن قد تقول: نتقت الجبل، أو نتقت أطنان الحديد.

                                                          ولقد نتق الله الجبل وعلا عليهم، وكأنه ظلة من ظلال السحاب فوق رءوسهم، ولأنه جبل أو جرم كبير ثقيل وظنوا أنه واقع بهم أي: واقع نازل بهم قاصد رءوسهم، والله يقول: خذوا ما آتيناكم بقوة أي خذوا التعاليم في الحلال والحرام وما كلفتموه عامة بقوة، أي بتقبل منكم، ورضا به، واطمئنان إليه، واذكروا ما فيه أي اذكروه وتدبروه، وعوا ما فيه، واعملوا به لعلكم تتقون، والرجاء منهم، أي راجين بذلك أن تتقوا السيئات، بل أن تتقوا شر أنفسكم الأمارة بالسوء، وهذا كقوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة

                                                          وقد يسأل سائل: لماذا كان رفع الجبل مع إعطائهم الميثاق بقوة؟ الظاهر أنهم ترددوا في قبوله وتلكئوا كشأنهم دائما في قبول الحق المنزل والعمل به، فأتى موسى - عليه السلام - معجزة حسية قاهرة تلزمهم، ولا يحيرون جوابا فيها، فكان نتق الجبل، وكانت هذه المعجزة الرهيبة الدافعة إلى الإيمان، المانعة من كل تردد، وقد جاءت الآثار بما يفيد ذلك.

                                                          روى ابن كثير أن موسى - عليه السلام - قال لهم: هذا كتاب تقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم، قالوا: انشر علينا ما فيها - أي الألواح - فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلنا، قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا، حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها، فراجعوه مرارا، فأوحى الله تعالى للجبل، فانقلع، فارتفع إلى السماء حتى إذا كان بين رءوسهم والسماء فقال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟! فأخذوا التوراة - وهو الميثاق - بهذه القوة الدافعة.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية