الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل ( كيفية دخول الحجاج الكوفة في سنة خمس وسبعين )

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد ذكرنا كيفية دخول الحجاج الكوفة في سنة خمس وسبعين ، وخطبته إياهم بغتة ، وتهديده ووعيده إياهم ، وأنهم خافوه مخافة شديدة ، وأنه قتل عمير بن ضابئ ، وكذلك قتل كميل بن زياد صبرا أيضا ، ثم كان من أمره في قتال ابن الأشعث ما قدمنا ذكره; من ظفره به بعد المطاولة والمقاتلة ، وتسلطه على من كان معه من الرؤساء والأمراء والعباد والقراء ، حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير ، قال القاضي المعافى بن زكريا : ثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي ، ثنا محمد بن زكريا [ ص: 519 ] الغلابي ، ثنا محمد يعني ابن عبيد الله بن عباس عن عطاء يعني ابن مصعب عن عاصم قال : خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم فقال : يا أهل العراق ، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف ثم أفضى إلى الأسماخ والأمخاخ والأشباح والأرواح ، ثم ارتفع فعشش ، ثم باض وفرخ ، ثم دب ودرج ، فحشاكم نفاقا وشقاقا ، وأشعركم خلافا ، اتخذتموه دليلا تتبعونه ، وقائدا تطيعونه ، ومؤامرا تشاورونه وتستأمرونه ، فكيف تنفعكم تجربة أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وأجمعتم على الكفر ، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته؟ وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا ، وتنهزمون سراعا . يوم الزاوية وما يوم الزاوية؟ مما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوس قلوبكم; إذ وليتم كالإبل الشاردة عن أوطانها النوازع ، لا يسأل المرء عن أخيه ، ولا يلوي الشيخ على بنيه حين عضكم السلاح ونخستكم الرماح . يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم ! بها كانت المعارك والملاحم ، بضرب يزيل الهام عن مقيله ، ويذهل الخليل عن خليله ، [ ص: 520 ] يا أهل العراق ، يا أهل الكفرات بعد الفجرات ، والغدرات بعد الخترات ، والنزوة بعد النزوات ، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم ، وإن أمنتم أرجفتم ، وإن خفتم نافقتم ، لا تذكرون نعمة ولا تشكرون معروفا ، هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو ، أو استنقذكم عاص ، أو استنصركم ظالم ، أو استعضدكم خالع إلا لبيتم دعوته ، وأجبتم صيحته ، ونفرتم إليه خفافا وثقالا ، وفرسانا ورجالا؟ يا أهل العراق ، هل شغب شاغب أو نعب ناعب ، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق ، ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته ، ويذقكم حر سيفه ، وأليم بأسه ومثلاته؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم التفت إلى أهل الشام فقال : يا أهل الشام ، إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ، ينفي عنها القذر ، ويباعد عنها الحجر ، ويكنها من المطر ، ويحميها من الضباب ، ويحرسها من الذباب ، يا أهل الشام ، أنتم [ ص: 521 ] الجنة والرداء ، وأنتم الملاءة والحذاء ، أنتم الأولياء والأنصار ، والشعار والدثار ، بكم يذب عن البيعة والحوزة ، وبكم ترمى كتائب الأعداء ، ويهزم من عاند وتولى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن أبي الدنيا : حدثني محمد بن أبي الحسين ، حدثنا عبيد الله بن محمد التميمي ، سمعت شيخا من قريش يكنى أبا بكر التيمي ، قال : كان الحجاج يقول في خطبته وكان لسنا : إن الله خلق آدم وذريته من الأرض فأمشاهم على ظهرها ، فأكلوا ثمارها ، وشربوا أنهارها ، وهتكوها بالمساحي والمرور ، ثم أدال الله الأرض منهم فردهم إليها ، فأكلت لحومهم كما أكلوا ثمارها ، وشربت دماءهم كما شربوا أنهارها ، وقطعتهم في جوفها ، وفرقت أوصالهم كما هتكوها بالمساحي والمرور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومما رواه غير واحد عن الحجاج أنه قال في خطبته في المواعظ : أيها الرجل ، وكلكم ذلك الرجل ، رجل خطم نفسه وزمها فقادها بخطامها إلى طاعة الله ، وكفها بزمامها عن معاصي الله ، رحم الله امرأ رد نفسه ، امرأ اتهم نفسه ، امرأ [ ص: 522 ] اتخذ نفسه عدوه ، امرأ حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره ، امرأ نظر إلى ميزانه ، امرأ نظر إلى حسابه ، امرأ وزن عمله ، امرأ فكر فيما يقرأ غدا في صحيفته ، ويراه في ميزانه ، وكان عند قلبه زاجرا ، وعند همه آمرا ، امرأ أخذ بعنان عمله كما يأخذ بعنان جمله ، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه وإن قاده إلى معصية الله كف ، امرأ عقل عن الله أمره ، امرأ فاق واستفاق وأبغض المعاصي والنفاق ، وكان إلى ما عند الله بالأشواق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما زال يقول امرأ امرأ . حتى بكى مالك بن دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني ، عن عوانة بن الحكم قال : قال الشعبي : سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد; يقول : أما بعد ، فإن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء ، وعلى الآخرة البقاء ، فلا فناء لما كتب عليه البقاء ، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة ، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني ، عن أبي عبد الله الثقفي ، عن عمه قال : سمعت الحسن البصري يقول : وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج ، سمعته يقول على هذه الأعواد : إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال شريك القاضي ، عن عبد الملك بن عمير قال : قال الحجاج يوما : من كان له بلاء أعطيناه على قدره . فقام رجل فقال : أعطني فإني قتلت [ ص: 523 ] الحسين . فقال : وكيف قتلته؟ قال : دسرته بالرمح دسرا ، وهبرته بالسيف هبرا ، وما أشركت معي في قتله أحدا . فقال : اذهب ، فوالله لا تجتمع أنت وهو في موضع واحد . ولم يعطه شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي : جاء رجل إلى الحجاج فقال : إن أخي خرج مع ابن الأشعث ، فضرب على اسمي في الديوان ، ومنعت العطاء ، وقد هدمت داري . فقال الحجاج : أما سمعت قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جانيك من يجني عليك وقد تعدي الصحاح مبارك الجرب     ولرب مأخوذ بذنب قريبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونجا المقارف صاحب الذنب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال الرجل : أيها الأمير ، إني سمعت الله يقول غير هذا ، وقول الله أصدق من هذا . قال : وما قال؟ قال : قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون [ يوسف : 78 ، 79 ] . قال : يا غلام ، أعد اسمه في الديوان ، وابن داره ، وأعطه عطاءه ، ومر مناديا ينادي : صدق الله وكذب الشاعر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي ، عن ابن عياش : كتب عبد الملك إلى الحجاج أن [ ص: 524 ] ابعث إلي برأس أسلم بن عبد البكري; لما بلغني عنه . فأحضره الحجاج ، فقال : أيها الأمير ، أنت الشاهد وأمير المؤمنين الغائب ، وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( الحجرات : 6 ) وما بلغه عني فباطل ، وإني أعول أربعة وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري ، وهن بالباب . فأمر الحجاج بإحضارهن ، فلما حضرن جعلت هذه تقول : أنا خالته . وهذه : أنا عمته . وهذه : أنا أخته . وهذه : أنا ابنته . وهذه : أنا زوجته . وتقدمت إليه جارية فوق الثماني ودون العشرة ، فقال لها الحجاج : من أنت؟ فقالت : أنا ابنته . ثم قالت : أصلح الله الأمير ، وجثت على ركبتيها ، وقالت :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحجاج لم تشهد مقام بناته     وعماته يندبنه الليل أجمعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحجاج كم تقتل به إن قتلته     ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحجاج من هذا يقوم مقامه     علينا فمهلا أن تزدنا تضعضعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحجاج إما أن تجود بنعمة     علينا وإما أن تقتلنا معا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فبكى الحجاج ، وقال : والله لا أعنت عليكن ، ولا زدتكن تضعضعا ، ثم كتب إلى عبد الملك بما قال الرجل ، وبما قالت ابنته هذه ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإطلاقه وحسن صلته ، وبالإحسان إلى هذه الجارية ، وتفقدها في كل وقت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الحجاج خطب يوما فقال : أيها الناس ، الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله . فقام إليه رجل فقال له : ويحك يا حجاج ، ما أصفق وجهك ، وأقل حياءك ، تفعل ما تفعل وتقول مثل هذا [ ص: 525 ] الكلام؟ خبت وضل سعيك . فقال للحرس : خذوه . فلما فرغ من خطبته قال له : ما الذي جرأك علي؟ فقال : ويحك يا حجاج أنت تجترئ على الله ولا أجترئ أنا عليك! ومن أنت حتى لا أجترئ عليك ، وأنت تجترئ على الله رب العالمين؟ فقال : خلوا سبيله . فأطلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المدائني : أتي الحجاج بأسيرين من أصحاب ابن الأشعث ، فأمر بقتلهما ، فقال أحدهما : إن لي عندك يدا . قال : وما هي؟ قال : ذكر ابن الأشعث يوما أمك ، فرددت عليه . فقال : ومن يشهد لك؟ قال : صاحبي هذا . فسأله ، فقال : نعم . فقال : ما منعك أن تفعل كما فعل؟ قال : بغضك . قال : أطلقوا هذا لصدقه ، وهذا لفعله ، فأطلقوهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الواقدي أن الحجاج نادى في البلد; أن من خرج بعد العشاء الآخرة من بيته قتل ، فأتي ليلة برجل ، فقال : ما أخرجك من بيتك هذه الساعة من بعد ما سمعت المنادي؟ فقال : أما والله إني لا أكذب الأمير ، إن أمي مريضة هالكة ، وأنا عندها منذ ثلاثة أيام ، فلما كان الساعة أفاقت ، وقالت : يا بني إني أعزم عليك بحقي عليك إلا مضيت إلى أهلك وأولادك ، فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم . فخرجت من عندها ، فأخذني العسس وأتوا بي إليك . فقال الحجاج : ننهاكم وتعصوننا . ثم أمر فضربت عنقه . قال : ثم أتي بآخر ، فقال له الحجاج : ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال : والله ما أكذبك ، إنه كان عندي [ ص: 526 ] لرجل دراهم فأقعدني على بابه ولزمني ، وقال : لا أفارقك إلا بحقي . فلما كان هذه الساعة دخل إلى منزله ، وأغلق بابه ، وتركني على بابه ، فجاءني طائفك فأخذني إليك . فقال الحجاج : اضربوا عنقه . قال : ثم أتي بآخر ، فقال له : ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال : كنت أشرب مع قوم ، فلما سكرت خرجت من عندهم وأنا لا أدري ، فأخذوني إليك . فقال الحجاج لرجل كان عنده : ما أراه إلا صادقا . ثم قال : خلوا سبيله . فخلوا سبيله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر محمد بن زياد بن الأعرابي فيما بلغه أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له : جحدر بن مالك . وكان فاتكا بأرض اليمامة ، فأرسل الحجاج إلى نائبها يؤنبه ويلومه على عدم أخذه ، فما زال نائبها في طلبه حتى أسره ، وبعث به إلى الحجاج ، فقال له الحجاج : ما حملك على ما كنت تصنعه؟ فقال : جراءة الجنان ، وجفاء السلطان ، وكلب الزمان ، ولو اختبرني الأمير لوجدني من صالح الأعوان ، وبهم الفرسان ، ولوجدني من أصلح رعيته ، وذلك أني ما لقيت فارسا قط إلا كنت عليه في نفسي مقتدرا . فقال له الحجاج : إنا قاذفوك في حائر فيه أسد عاقر ، فإن قتلك كفانا مؤنتك ، وإن قتلته [ ص: 527 ] خلينا سبيلك . ثم أودعه السجن مقيدا مغلولة يده اليمنى إلى عنقه ، وكتب الحجاج إلى نائبه بكسكر أن يبعث إليه بأسد عظيم ضار ، وقد قال جحدر هذا في محبسه هذا أشعارا يتحزن فيها على امرأته سليمى أم عمرو ، يقول في بعضها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أليس الليل يجمع أم عمرو     وإيانا فذاك بنا تداني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بلى ونرى الهلال كما تراه     ويعلوها النهار إذا علاني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا جاوزتما نخلات حجر     وأودية اليمامة فانعياني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقولا جحدر أمسى رهينا     يحاذر وقع مصقول يماني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما قدم الأسد على الحجاج أمر به فجوع ثلاثة أيام ، ثم أبرز إلى حائر وهو البستان وأمر بجحدر ، فأخرج في قيوده ويده اليمنى مغلولة بحالها ، وأعطي سيفا في يده اليسرى ، وخلي بينه وبين الأسد ، وجلس الحجاج وأصحابه في منظرة ، وأقبل جحدر نحو الأسد ، وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليث وليث في مجال ضنك     كلاهما ذو أنف ومحك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشدة في نفسه وفتك     إن يكشف الله قناع الشك


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهو أحق منزل بترك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما نظر إليه الأسد زأر زأرة شديدة ، وتمطى وأقبل نحوه ، فلما صار منه على قدر رمح وثب الأسد علىجحدر وثبة شديدة ، فتلقاه جحدر بالسيف ، فضربه ضربة حتى خالط ذباب السيف لهواته ، فخر الأسد كأنه خيمة قد [ ص: 528 ] صرعتها الريح ، من شدة الضربة ، وسقط جحدر من شدة وثبة الأسد; وشدة موضع القيود عليه ، فكبر الحجاج وكبر أصحابه ، وأنشأ جحدر يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا جمل إنك لو رأيت كريهتي     في يوم هول مسدف وعجاج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتقدمي لليث أرسف موثقا     كيما أثاوره على الأحراج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شثن براثنه كأن نيوبه     زرق المعاول أو شباه زجاج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يسمو بناظرتين تحسب فيهما     لهبا أحدهما شعاع سراج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكأنما خيطت عليه عباءة     برقاء أو خرق من الديباج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعلمت أني ذو حفاظ ماجد     من نسل أقوام ذوي أبراج

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم التفت إلى الحجاج ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      علم النساء بأنني لا أنثني     إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعلمت أني إن كرهت نزاله     أني من الحجاج لست بناج

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فعند ذلك خيره الحجاج إن شاء أقام عنده ، وإن شاء انطلق إلى بلاده ، فاختار المقام عند الحجاج ، فأحسن جائزته وأعطاه أموالا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الحجاج مع فصاحته وبلاغته يلحن في حروف من القرآن أنكرها يحيى بن يعمر; منها أنه كان يبدل " إن " المكسورة ب " أن " المفتوحة ، وعكسه ، [ ص: 529 ] وكان يقرأ : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله : أحب إليكم ( التوبة : 24 ) فيقرؤها برفع " أحب " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر يوما أن يكون الحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم; لكونه ابن بنته ، فقال له يحيى بن يعمر : كذبت . فقال الحجاج : لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك . فقال : قال الله : ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : وزكريا ويحيى وعيسى ( الأنعام : 84 ، 85 ) فعيسى من ذرية إبراهيم ، وهو إنما ينسب إلى أمه مريم ، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال الحجاج : صدقت . ونفاه إلى خراسان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي وغيره : كتب عبد الملك إلى الحجاج يسأله عن أمس واليوم وغد ، فقال للرسول : أكان خويلد بن يزيد بن معاوية عنده؟ قال : نعم . فكتب الحجاج إلى عبد الملك : أما أمس فأجل ، وأما اليوم فعمل ، وأما غدا فأمل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن دريد ، عن أبي حاتم السجستاني ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : لما قتل الحجاج ابن الأشعث ، وصفت له العراق وسع على الناس في العطاء ، فكتب إليه عبد الملك : أما بعد ، فقد بلغ أمير المؤمنين أنك تنفق في اليوم ما لا ينفقه أمير المؤمنين في الأسبوع ، وتنفق في الأسبوع ما لا ينفقه أمير المؤمنين في الشهر ، ثم قال منشدا :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 530 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عليك بتقوى الله في الأمر كله     وكن لوعيد الله تخشى وتضرع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ووفر خراج المسلمين وفيئهم     وكن لهم حصنا تجير وتمنع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكتب إليه الحجاج :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعمري لقد جاء الرسول بكتبكم     قراطيس تملى ثم تطوى فتطبع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كتاب أتاني فيه لين وغلظة     وذكرت والذكرى لذي اللب تنفع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت أمور تعتريني كثيرة     فأرضخ أو أعتل حينا فأمنع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا كنت سوطا من عذاب عليهم     ولم يك عندي بالمنافع مطمع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيرضى بذاك الناس أو يسخطونه     أم احمد فيهم أم ألام فأقذع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت بلاد جئتها حين جئتها     بها كل نيران العداوة تلمع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقاسيت منها ما علمت ولم أزل     أصارع حتى كدت بالموت أصرع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكم أرجفوا من رجفة قد سمعتها     ولو كان غيري طار مما يروع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت إذا هموا بإحدى قناتهم     حسرت لهم رأسي ولا أتقنع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو لم يذد عني صناديد منهم     تقسم أعضائي ذئاب وأضبع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فكتب إليه عبد الملك أن اعمل برأيك . وقال التوزي : عن محمد بن المستورد الجمحي ، قال : أتي الحجاج بسارق ، فقال له : لقد كنت غنيا أن يأتيك الحكم ، فيبطل عليك عضوا من أعضائك . فقال الرجل : إذا قل ذات اليد سخت النفس بالمتالف . قال : صدقت ، والله لو كان حسن اعتذار يبطل [ ص: 531 ] حدا لكنت له موضعا ، يا غلام ، سيف صارم ورجل قاطع . فقطع يده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن مجاهد ، عن محمد بن الجهم ، عن الفراء قال : تغدى الحجاج يوما مع الوليد بن عبد الملك ، فلما انقضى غداؤهما دعاه الوليد إلى شرب النبيذ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الحلال ما أحللت ، ولكني أنهى عنه أهل عملي ، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عمر بن شبة ، عن أشياخه ، قال : كتب عبد الملك إلى الحجاج يعتب عليه في إسرافه في صرف الأموال وسفك الدماء ، ويقول له : إنما المال مال الله ونحن خزانه ، وسيان منع حق وإعطاء باطل . وكتب في أسفل الكتاب :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها     وتطلب رضائي في الذي أنا طالبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتخشى الذي يخشاه مثلك هاربا     إلى الله منه ضيع الدر جالبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن تر مني غفلة قرشية     فيا ربما قد غص بالماء شاربه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن تر مني وثبة أموية     فهذا وهذا كله أنا صاحبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تعد ما يأتيك مني فإن تعد     تقم فاعلمن يوما عليك نوادبه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما قرأه الحجاج كتب : أما بعد فقد جاءني كتاب أمير المؤمنين ، يذكر فيه سرفي في الأموال والدماء ، فوالله ما بالغت في عقوبة أهل المعصية ولا قضيت حق أهل الطاعة ، فإن كان ذلك سرفا فليحد لي أمير المؤمنين حدا أنتهي [ ص: 532 ] إليه ، ولا أتجاوزه . وكتب في أسفل الكتاب :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنا لم أطلب رضاك وأتقي     أذاك فيومي لا توارت كواكبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا قارف الحجاج فيك خطيئة     فقامت عليه في الصباح نوادبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أسالم من سالمت من ذي هوادة     ومن لم تسالمه فإني محاربه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه     وأقص الذي تسري إلي عقاربه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمن يتقي يومي ويرجو إذا غدي     على ما أرى والدهر جم عجائبه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن الشافعي أنه قال : قال الوليد بن عبد الملك للغاز بن ربيعة أن يسأل الحجاج فيما بينه وبينه; هل يجد في نفسه مما أصاب من الدماء شيئا؟ فسأله كما أمره ، فقال : والله ما أحب أن ليلبنان أو سنيرا ذهبا أنفقه في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية