الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وأهل " العبادات البدعية " يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره وقد يبغض إليهم حتى الكتاب فلا يحبون كتابا ولا من معه كتاب ولو كان مصحفا أو حديثا ; كما حكىالنصرباذي أنهم كانوا يقولون : يدع علم الخرق ويأخذ علم الورق قال : وكنت أستر ألواحي منهم فلما كبرت احتاجوا إلى علمي .

                وكذلك حكى السري السقطي : أن واحدا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يقعد عنده ; [ ص: 412 ] ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري : يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق .

                وقال الجنيد : علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن . وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب ; وذلك لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه . وقال الله تعالى عن المشركين : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } وقال تعالى : { فما لهم عن التذكرة معرضين }

                { كأنهم حمر مستنفرة } { فرت من قسورة } .

                وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف . ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى . وكان مما زين لهم طريقهم أن وجدوا كثيرا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلوك سبيله إما اشتغالا بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبا بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه [ ص: 413 ] من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين : هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء . وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب . فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين . ويحكون أن شخصا حصل له ذلك وهذا كذب . نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها . فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال : أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت .

                وهذا يقع لكن منهم من يظن أنما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ . وقد قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون }

                { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } وقال تعالى : { وما هو إلا ذكر للعالمين } وقال تعالى : [ ص: 414 ] { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وقال تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا }

                { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } وقال تعالى : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .

                ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول . يقول أحدهم : فلان عطيته على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة . ويقول أيضا : فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله ومثل هذا . وقول القائل : " يأخذ عن الله ، وأعطاني الله " لفظ مجمل فإن [ ص: 415 ] أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو " الكوني الخلقي " أي : بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا فهو حق ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا وذلك الذي أخذ عن الكتاب هو أيضا عن الله أخذ بهذا الاعتبار . والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضا هم كذلك وإن أراد أن هذا الذي حصل له هو مما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه وهذا الخطاب الذي يلقى إليه هو كلام الله تعالى . فهنا طريقان :

                ( أحدهما ) : أن يقال له من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته ؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن وهذا موجود كثيرا في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم وفي أهل البدع بحسب بدعتهم . فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو : { الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي وبين طريق الجنة وطريق النار وبين سبيل أولياء الرحمن وسبيل أولياء الشيطان . كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع . [ ص: 416 ] و ( المقصود هنا ) أنه يقال لهم : إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركا بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق .

                ( الطريق الثاني ) أن يقال : بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ; وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له : اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب أو أن يدعو مخلوقا كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكا أو نبيا أو شيخا فإذا دعاه كما يدعو الخالق سبحانه إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك كما كان يحصل للمشركين . وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانا وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة . أو يقضون لهم بعض الحوائج فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر قال الله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } .

                وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث ; وإن رجلا سأل امرأة فقالت : لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن فقال لا أشرك بالله فقالت : أو تقتل هذا الصبي ؟ فقال : لا أقتل النفس التي حرم الله فقالت : أو تشرب هذا القدح ؟ فقال هذا أهون فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنى بالمرأة " .

                و " المعازف " هي خمر النفوس تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون . وهذه " الثلاثة " موجودة كثيرا في أهل " سماع المعازف " : سماع المكاء والتصدية أما " الشرك " فغالب عليهم بأن يحبوا شيخهم أو غيره مثل ما يحبون الله ويتواجدون على حبه . وأما " الفواحش " فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم الأسباب [ ص: 418 ] لوقوع الفواحش ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلا أو مفعولا به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر .

                وأما " القتل " فإن قتل بعضهم بعضا في السماع كثير يقولون : قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر ، كالذين يشربون الخمر ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر وقد جرى مثل هذا لكثير منهم ومنهم من يقتل إما شخصا وإما فرسا أو غير ذلك بحاله ثم يقوم صاحب الثأر ويستغيث بشيخه فيقتل ذلك الشخص وجماعة معه : إما عشرة وإما أقل أو أكثر . كما جرى مثل هذا لغير واحد وكان الجهال يحسبون هذا من ( باب الكرامات ) . فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان ، عرف ذلك من بصره الله تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء . وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل " الزهد والعبادة والإرادة " فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة . فبتنا بمكان وأرادوا أن [ ص: 419 ] يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك فجعلوا لي مكانا منفردا قعدت فيه فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ويقول : يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا : أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فإني لا آكل منه شيئا . وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين وكان فيهم من هو سكران بالخمر . والذي قلته معناه أن هذا النصيب وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ليس هو طاعة لله ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول : تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك . وقد يكون سببه نذرا لغير الله سبحانه وتعالى : مثل أن ينذر لصنم أو كنيسة أو قبر أو نجم أو شيخ ونحو ذلك من النذور التي فيها شرك فإذا أشرك بالنذر فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه كما تقدم في السحر .

                وهذا بخلاف النذر لله تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : إنه لا يأتي [ ص: 420 ] بخير وإنما يستخرج به من البخيل } وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي رواية : { فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر } فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به منهي عن عقده ولكن إذا كان قد عقده فعليه الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه وقد لا يرضى به فيبقى آثما . وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيرا له والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير فليس النذر سببا في حصول مطلوبهم وذلك أن الناذر إذا قال : لله علي إن حفظني الله القرآن أن أصوم مثلا ثلاثة أيام أو إن عافاني الله من هذا المرض أو إن دفع الله هذا العدو أو إن قضى عني هذا الدين فعلت كذا فقد جعل العبادة التي التزمها عوضا من ذلك المطلوب . والله سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة بل ينعم على عبده بذلك المطلوب ليبتليه أيشكر أم يكفر ؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه .

                وأما تلك العبادة المنذورة فلا تقوم بشكر تلك النعمة ولا ينعم الله تلك النعمة ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة فصارت [ ص: 421 ] واجبة ; لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم ، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرا من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر لأجل تلك النعمة وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها لمجرد ذلك المبذول المحتقر . وإن كان المبذول كثيرا والعبد مطيع لله : فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير ; فليس النذر سببا لحصول مطلوبه كالدعاء فإن الدعاء من أعظم الأسباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله تعالى أسبابا لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء ، وأما ما يفعله على وجه النذر فإنه لا يجلب منفعة ولا يدفع عنه مضرة لكنه كان بخيلا فلما نذر لزمه ذلك فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل فيعطي على النذر ما لم يكن يعطيه بدونه والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية