الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فأما : القول في المناكحات

        818 - فإنا نعلم أنها لا بد منها ، كما أنه لا بد من الأقوات ، فإن بها بقاء النوع ، كما بالأقوات ( 270 ) بقاء النفوس .

        والنكاح هو المغني عن السفاح ، ولا ينتهي الأمر في حق الشخص المعين - مع بقاء العلم بتفاصيل الشريعة إلى المنتهى الذي يباح في مثله الميتات في أمر الوقاع والاستمتاع ، ولا يجب على ذوي المكنة واليسار ، [ ص: 512 ] وأصحاب الاقتدار ، أن يعفوا الفقراء المتعزبين ، وإن اشتدت غلمتهم ، [ وظهر ] توقانهم .

        ولكن مع هذا التنبيه ، المناكح في حق الناس عامة في حكم ما لا بد منه ، وقد تقرر فيما تقدم أن عموم الحاجة في حقوق الناس كافة ، كالضرورة في حق الشخص المعين . فهذه مقدمة رأينا تقديمها .

        819 - وأول ما نفتتحه بناء عليها ، أنه إذا أشكل في الزمان الشرائط المرعية في النكاح ، ولم يأمن كل من يحاول نكاحا أنه يخل بشرط معتبر في تفاصيل الشريعة ، فلا تحرم المناكح بتوقع ذلك ; فإنا لو حرمناها ، لحسمناها ، ولو فعلنا ذلك ، لتسببنا إلى قطع النسل ، وإفناء النوع ، ثم لا تعف النفوس عموما ، فتسترسل في السفاح ، إذا صدت عن النكاح .

        وهذا كما تقدم فيه إذا عمت الشبهات ، أو طبقت المحرمات في المطاعم والمشارب .

        820 - ولكنا ذكرنا أن المعتمد في البياعات والمعاملات التراضي ، [ ص: 513 ] والمنع من التغالب والتسالب ، فلئن قامت تعبدات في تفاصيل المعاملات ، فاعتبار التراضي معلوم ، لا ينكر ما بقيت الأصول . ونحن نذكر الآن الأصل المعتبر في النكاح ، فنقول :

        821 - لا يخفى على ذوي التمييز أن الرضا المجرد لا يقع الاكتفاء به ولو أقنع الرضا لكان كل سفاح بين مقدم عليه ، وممكنة مطاوعة نكاحا مباحا .

        فمما لا يكاد يخفى اعتباره صورة العقد والإيجاب والقبول ( 271 ) ، وأما الولي والشهود ، فمما اختلف العلماء في أصله وتفصيله .

        فما غمض أمره [ على ] أهل الزمان ، ولم يخطر لهم على التعيين ، ولكنهم على الجملة لم يأمنوا أن يكونوا مخلين بشرط العقد ، ولا سبيل إلى دركه ، فهذا الظن غير ضائر .

        822 - وإن تعين لهم شيء ، وترددوا في اشتراطه ، كالولي والشهود ، فقد تعارض هاهنا ظنان :

        [ ص: 514 ] أحدهما - أنه لا يثبت شرط ما لم يعلم ثبوته .

        والثاني - أن الأصل تحريم الأبضاع ، فلا يستباح إلا بثبت وتحقيق .

        823 - ولكن لا معول على الظن الثاني من وجهين :

        أحدهما - أنا نرى الآن في تفاصيل الشريعة استباحة الأنكحة في مجال الظنون والاجتهاد .

        والثاني - أن هذا التعارض لا يثبت علما ، وإذا لم يثبت علم باشتراط شيء لم يشترط . وهذا لا يعارضه قول القائل إذا لم يثبت تصحيح النكاح ، لم نحكم به ، فإنا لو شرطنا في خلو الزمان العلم بانعقاد النكاح ، واشتماله على الشرائط المرعية ، وعروه عن المفسدات ، لما حكمنا بصحة [ نكاح ] أصلا مع دروس العلم بالتفاصيل .

        824 - ومما لا تخفى رعايته في النكاح خلو المرأة عن نكاح الغير ، وعن اشتمال الرحم على ماء محترم ، فإن الغرض الأظهر [ ص: 515 ] في إحلال النكاح ، وتحريم السفاح أن يختص كل بعل بزوجته ولا يزدحم ناكحان على امرأة فيؤدي ذلك إلى اختلاط الأنساب .

        825 - وأما أمر العدة ، فإن كان محفوظا في العصر - وهو الغالب ما بقيت الأصول - فيراعى في النكاح الخلو عن العدة .

        وإن اشتبه على بني الزمان تفاصيل العدد فلا يكاد يخفى اعتبار ظهور براءة الرحم عن الناكح المتقدم ، فإن ظهر ذلك بحيضه ; ولم يعلم بنو الدهر اعتبار العدد في الأقراء ، أو مضي زمن لو كان حمل لظهر مخايله ، وحسب الناس أن النكاح ( 272 ) يحل ، أو لم يعلموا تحريمه ، فهذا يلتحق بإيرادهم عقد النكاح على وجه يترددون في صحته وفساده ، من جهة مفسد مقترن أو إخلال بشرط فالوجه الحكم بالصحة كما تقدم ذكره ، فهذا ما يتعلق بالنكاح .

        826 - فأما إذا طرأ على النكاح طارئ ، وكان حكمه محفوظا ، فلا كلام .

        وإن غمض ، فلم يدر أنه قاطع للنكاح أم لا ، فالذي [ ص: 516 ] يقتضيه الأصل الحكم ببقاء النكاح إلى استيقان ارتفاعه ، وهذا يشهد له حكم من تفاصيل الشرع ، أن من شك فلم يدر أطلق أم لا ، [ أو ] استيقن أنه تلفظ ، ولم يعلم أنه كان طلاقا أم لا ، فالنكاح مستدام مستصحب وفاقا .

        827 - ولست أستدل بهذا ; فإن القول مصور لي في غموض التفاصيل ، فلا يبقى شاهد من التفاريع في الزمان الخالي عن ذكرها .

        ولكن المعتبر فيه ما قدمنا من أن التحريم إذا لم يقم عليه دليل فالأمر يجري على رفع الحرج .

        وقد كررت هذا مرارا محاولا الإيناس به . والكلام إذا لم يكن معهودا ذكر مرة واحدة ، فقد يتعداه الناظر من غير تعريج على تدبره ، فتفوته الفائدة ، وإذا تكرر استبان اعتناء مكرره ، فيترتب على اتئاد في البحث عن مغزاه ومقتضاه .

        فهذا آخر المقصود في الأحكام المتعلقة بالأنكحة وما يطرأ عليها .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية