الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الرجلين يشتركان في قتل رجل .

قال الله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وقال تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ولا خلاف أن هذا الوعيد لاحق بمن شارك غيره في القتل ، وأن عشرة لو قتلوا رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة .

وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس يلزمه من الكفارة ما يلزم المنفرد بالقتل . ولا خلاف أن ما دون النفس لا يجب فيه كفارة ، فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس . وقال تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فالجماعة إذا اجتمعت على قتل رجل فكل واحد في حكم القاتل للنفس ، ولذلك قتلوا به جميعا .

وإذا كان كذلك ، فلو قتل اثنان رجلا أحدهما عمدا والآخر خطأ ، أو أحدهما مجنون ، والآخر عاقل ، فمعلوم أن المخطئ في حكم أخذ جميع النفس ، فيثبت لجميعهما حكم الخطإ ، فانتفى منهما حكم العمد ؛ إذ غير جائز ثبوت حكم الخطأ للجميع ، وحكم العمد للجميع . وكذلك المجنون والعاقل والصبي والبالغ ، ألا ترى أنه إذا ثبت حكم الخطأ للجميع وجبت الدية كاملة .

وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه ؟ ولا خلاف بين الفقهاء في امتناع وجوب دية كاملة في النفس ووجوب القود مع ذلك على جهة استيفائهما جميعا ، فوجب بذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يثبت معه قود على أحد ؛ لأن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع ، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش لشيء منها .

وقد اختلف الفقهاء في الصبي ، والبالغ ، والمجنون ، والعاقل ، والعامد ، والمخطئ يقتلان رجلا ، فقال أبو حنيفة ، وصاحباه : " لا قصاص على واحد منهما " . وكذلك لو كان أحدهما أبا المقتول فعلى الأب والعاقل نصف الدية في ماله ، والمخطئ والمجنون والصبي على عاقلته ، وهو قول الحسن بن صالح .

وقال مالك : " إذا اشترك الصبي [ ص: 181 ] والبالغ في قتل رجل قتل الرجل ، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية " . وقال الأوزاعي : " على عاقلتهما الدية " . وقال الشافعي : " إذا قتل رجل مع صبي رجلا فعلى الصبي العامد نصف الدية في ماله ، وكذلك الحر والعبد إذا قتلا عبدا ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا " قال : " إن شركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله ، وجناية المخطئ على عاقلته " .

قال أبو بكر : أصل أصحابنا في ذلك أنه متى اشترك اثنان في قتل رجل ، وأحدهما لا يجب عليه القود فلا قود على الآخر . وما قدمناه من دلائل الآي التي ذكرنا يمنع وجوب القود على أحدهما عمدا ، ويجب المال على الآخر لحصول حكم الخطأ للنفس المتلفة ، ولا جائز أن يكون خطأ وعمدا موجبا للمال والقود في حال واحدة ، وهي نفس واحدة لا تتبعض ، ألا ترى أنه غير جائز أن يكون بعضها متلفا ، وبعضها حيا ؟ لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة . فلما امتنع ذلك ثبت أن كل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها ، فوجب بذلك قسطها من الدية على من لا يجب عليه القود ، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ . فلا جائز مع ذلك أن يحكم بها بحكم العمد لأنه لو جاز ذلك لوجب أن يكون فيهما جميع الدية .

ويشبه من هذا الوجه أيضا الواطئ لجارية بينه وبين غيره في سقوط الحد عنه ؛ لأن فعله لم يتبعض في نصيبه دون نصيب شريكه ، فلما لم يجب عليه الحد في نصيبه منع ذلك من وجوبه في نصيب شريكه لعدم التبعيض فيه .

وعلى هذا قال أصحابنا في رجلين سرقا من ابن أحدهما : إنه لا قطع على واحد منهما لمشاركته في انتهاك الحرز من لا يستحق القطع .

فإن قال قائل : إن تعلق حكم العمد على العامد ، والصحيح والبالغ موجب عليه القود بقضية استدلالك بالآي التي تلوت إذا كان قاتلا لجميع النفس متلفا لجميع الحياة ، ولذلك استحق الوعيد في حال الاشتراك والانفراد .

وكذلك الجماعة العامدون لقتل رجل أوجب على كل واحد منهم القود ؛ إذ كان في حكم من أتلف الجميع منفردا به ، وهذا يوجب قتل العاقل منهما . وكذلك الصبي والبالغ ، وأن لا يسقط بمشاركة من لا قود عليه . قيل له : هذا غير واجب ، من قبل أنه لا خلاف أن المشارك الذي لا قود عليه يلزمه قسطه من الدية ولما وجب فيه الأرش انتفى عنه حكم العمد في الجميع لما ذكرنا من امتناع تبعيضها في حال الإتلاف ، فصار الجميع في حكم الخطأ ، وما لا قود فيه . ولما كان الواجب على الشريك الذي لم يستحق عليه القود قسطه من الدية دون جميعها ، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطإ ، لولا ذلك [ ص: 182 ] لوجب جميع الدية ، ألا ترى أنهم لو كانوا جميعا ممن يجب عليهم القود لأقدنا منهم جميعا ، وكان كل واحد منهم في حكم القاتل منفردا به ؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دل ذلك على سقوط القود ، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ؛ فلذلك انقسمت الدية على عددهم .

ومن حيث وافقنا الشافعي في قاتلي العمد والخطأ أن لا قود على العامد منهما لزمه مثل ذلك في العاقل والمجنون والصبي والبالغ ؛ لمشاركته في القتل من لا قود عليه فيه . وأيضا فوجدنا في الأصول امتناع وجوب المال والقود في شخص واحد ، ألا ترى أنه لو كان القاتل واحدا فوجب المال انتفى وجوب القصاص ؟ وكذلك الوطء إذا وجب به المهر سقط الحد ، وكذلك السرقة إذا وجب بها الضمان سقط القطع عندنا ؛ لأن المال لا يجب في هذه المواضع إلا مع وجود الشبهة المسقطة للقود والحد ، فلما وجب المال في مسألتنا بالاتفاق انتفى به وجوب القصاص .

ومما يدل على أن سقوط القود فيما وصفنا أولى من إيجابه : أن القود قد يتحول مالا بعد ثبوته ، والمال لا يتحول قودا بوجه ، فكان ما لا ينفسخ إلى غيره أولى بالإثبات مما ينفسخ بعد ثبوته إلى الآخر ، وكان سقوط القود عن أحدهما مسقطا له عن الآخر .

فإن قيل : فأنتم تقولون في العامدين إذا قتلا رجلا ثم عفا الولي عن أحدهما أن الآخر يقتل ، فكذلك يجب أن تقولوا في هذه المسألة . قيل له : هذا سؤال ساقط على أصل الشافعي ؛ لأنه يلزمه أن يقيد من العامد إذا شاركه المخطئ ؛ إذ كانت الشركة لا حظ لها في نفي القود عمن يجب عليه ذلك لو انفرد ، وإن كان سقوط القود عن أحد قاتلي العمد بالعفو لا يسقط عن الآخر ، فلما لم يلزمه ذلك في المخطئ والعامد لم يلزمنا في الصبي والبالغ والمجنون والعاقل .

والسؤال ساقط للآخرين أيضا من قبل أن هذا كلام في الاستيفاء ، والاستيفاء لا يجب على وجه الشركة ؛ إذ له أن يقتل أحدهما قبل الآخر ، وله أن يقتل من وجده منهما دون من لم يجد . وأيضا مسألتنا في الوجوب ابتداء إذا وقع القتل على وجه الشركة فيستحيل حينئذ أن يكون كل واحد منهما قد صار في الحكم كمتلف دون الآخر ، واستحال انفراد أحدهما بالحكم دون شريكه .

وأيضا فالوجوب حكم غير الاستيفاء ، فغير جائز إلزام الاستيفاء عليه ؛ إذ غير جائز اعتبار حال الاستيفاء بحال الوجوب ، ألا ترى أنه يجوز أن يكون في حال الاستيفاء تائبا وليا لله عز وجل ، وغير جائز أن يكون في حال القتل الموجب للقود وليا لله تعالى ؟ وجائز أن يتوب الزاني فيكون [ ص: 183 ] حق استيفاء الحد باقيا عليه ، وغير جائز وجوب الحد ، وهو على هذه الصفة ؟ فمن اعتبر حال الوجوب بحال الاستيفاء فهو مغفل للواجب عليه .

وأيضا فإنه متى عفا عن أحدهما سقط حكم قتله فصار الباقي في حكم المنفرد بقتله فلزمه القود ، ولم يسقط عنه بسقوطه عن الآخر . وأما المجنون ومن لم يجب عليه القود فحكم فعله ثابت على وجه الخطأ ، وذلك موجب لحظر دم من شاركه ؛ إذ كان حكمه حكمه لاشتراكهما فيه . وإذا ثبت بما قدمنا من دلائل الكتاب والنظر سقوط القود عمن شاركه من لا يجب عليه القود ، جاز أن يخص بهما موجب حكم الآي المذكور فيها القصاص من قوله : كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله الحر بالحر وقوله : ومن قتل مظلوما و النفس بالنفس وما جرى مجرى ذلك من عموم السنن الموجبة للقصاص ولأن جميع ذلك عام قد أريد به الخصوص بالاتفاق ، وما كان هذا سبيله فجائز تخصيصه بدلائل النظر ، والله الموفق . وذكر المزني أن الشافعي احتج على محمد في منعه إيجاب القود على العامد إذا شاركه صبي أو مجنون ، فقال : " إن كنت رفعت عنه القتل لأن القلم مرفوع عنهما ، وأن عمدهما خطأ ، فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمدا مع الأب ؛ لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع " . وهذا ترك لأصله .

قال المزني : " قد شرك الشافعي محمدا فيما أنكر عليه في هذه المسألة ؛ لأن رفع القصاص عن المخطئ والمجنون واحد ، وكذلك حكم من شركهم في العمد واحد " . قال أبو بكر : ما ذكره المزني عن الشافعي إلزام في غير موضعه ؛ لأنه ألزمه عكس المعنى ، وإنما الذي يلزم على هذا الأصل أن كل من كان عمده خطأ أن لا يقيد المشارك له في القتل ، وإن كان عامدا ، فأما من ليس عمده خطأ فليس يلزمه أن يخالف بينهما في الحكم بل حكمه موقوف على دليله ؛ لأنه عكس العلة ، وليس يلزم من اعتل بعلة في الشرع أن يعكسها ، ويوجب من الحكم عند عدمها ضد موجبها عند وجودها ، ألا ترى أنا إذا قلنا : وجود الغرر يمنع جواز البيع " لم يلزمنا على ذلك الحكم بجوازه عند عدم الغرر ؟ بل جائز أن يمنع الجواز عند عدم الغرر ؛ لوجود معنى آخر ، وهو أن يكون مما لم يقبضه بائعه ، أو شرط فيه شرطا لا يوجبه العقد ، أو يكون مجهول الثمن ، وما جرى مجرى ذلك من المعاني المفسدة لعقود البياعات .

وجائز أن يجوز البيع عند زوال الغرر على حسب قيام دلالة الجواز والفساد ، ونظائر ذلك كثيرة في مسائل العقد لا يخفى على من له أدنى ارتياض بنظر الفقه . ومما يحتج به في ذلك : حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل [ ص: 184 ] السوط والعصا فيه الدية مغلظة وقتيل الصبي والبالغ والمجنون والعاقل والمخطئ والعامد هو خطأ العمد من وجهين أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قتل خطأ العمد بأنه قتيل السوط والعصا ، فإذا اشترك مجنون معه عصا وعاقل معه سيف فهو قتيل خطأ العمد لقضية النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب أن لا قصاص فيه .

والوجه الآخر : أن عمد الصبي والمجنون خطأ ؛ لأن القتل لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه : إما خطأ أو عمد أو شبه عمد ، فلما لم يكن قتل الصبي والمجنون عمدا وجب أن يكون في أحد الحيزين الآخرين من الخطأ أو شبه العمد ، وأيهما كان فقد اقتضى ظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم إسقاط القود عن مشاركه في القتل ؛ لأنه قتيل خطأ أو قتيل خطأ العمد .

وأيضا فإنه أوجب فيمن استحق هذه التسمية دية مغلظة ، ومتى وجبت الدية كاملة انتفى القود بالاتفاق .

فإن قيل : إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : قتيل خطأ العمد إذا انفرد بقتله بالسوط والعصا . قيل له : مشاركة غيره فيه بالسيف لا تخرجه من أن يكون قتيل السوط والعصا ، وقتيل خطأ ؛ لأن كل واحد منهما من حيث كان قاتلا وجب أن يكون هو قتيلا لكل واحد منهما ، فاشتمل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين ، وانتفى به القصاص في الحالين .

ويدل على صحة ما ذكرنا ، وأنه غير جائز اختلاف حكم مشاركة المجنون للعاقل والمخطئ للعامد ، أن رجلا لو جرح رجلا ، وهو مجنون ثم أفاق وجرحه أخرى بعد الإفاقة ثم مات المجروح منهما ، أنه لا قود على القاتل ، كما لو جرحه خطأ ثم جرحه عمدا ، ومات منهما لم يجب عليه القود ، وكذلك لو جرحه مرتدا ثم أسلم ثم جرحه ، ومات من الجراحتين لم يكن على الجارح القود .

وذلك يدل على معنيين :

أحدهما : أن موته من جراحتين ، إحداهما غير موجبة للقود ، والأخرى موجبة يوجب إسقاط القود ، ولم يكن لانفراد الجراحة التي لا شبهة فيها عن الأخرى حكم في إيجاب القود ، بل كان الحكم للتي لم توجب قودا ، فوجب على هذا أنه إذا مات من جراحة رجلين أحدهما لو انفرد أوجبت جراحته القود ، والأخرى لا توجبه أن يكون حكم سقوطه أولى من حكم إيجابه لحدوث الموت منهما ، فكان حكم ما يوجب سقوط القود أولى من حكم ما يوجبه ، والعلة فيها موته من جراحتين إحداهما مما توجب القود ، والأخرى مما لا توجبه .

والمعنى الآخر : ما قسمنا الكلام عليه بديا ، هو أنه لا فرق بين المخطئ والعامد وبين المجنون والعاقل عند الاشتراك ، كما لم تختلف جناية المجنون في حال جنونه ثمل في حال إفاقته إذا حدث الموت منهما . وجناية الخطأ والعمد إذا حدث الموت [ ص: 185 ] منهما في سقوط القود في الحالين ، كذلك ينبغي أن لا يختلف حكم جناية الصحيح لمشاركة المجنون ، وحكم جناية العامد لمشاركة المخطئ ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية