الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الثالثة

              أن الرخصة إضافية لا أصلية ، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن سبب الرخصة المشقة ، والمشاق تختلف بالقوة والضعف ، وبحسب الأحوال ، وبحسب قوة العزائم وضعفها ، وبحسب الأزمان ، وبحسب الأعمال ، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة ، وأرض مأمونة ، وعلى بطء وفي زمن الشتاء ، وقصر الأيام ; كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر ، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشقاته يختلف ; فرب [ ص: 485 ] رجل جلد ضري على قطع المهامه ، حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ، ولا يتألم بسببها ، يقوى على عباداته ، وعلى أدائها على كمالها ، وفي أوقاتها ، ورب رجل بخلاف ذلك ، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش ، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة ، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها ، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها ، وإذا كان كذلك ; فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس ، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة ; فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة ، وترك كل مكلف على ما يجد ، أي : إن كان قصر أو فطر ففي السفر ، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض ، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر ، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر ، وهذا لا مرية فيه ; فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ، ولا ضابط مأخوذ باليد ، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه ; فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ، ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب ، وكما ذكر عن الأولياء ; فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك ، هذا وجه .

              والثاني : إنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس ، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا [ ص: 486 ] الشدائد ، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم ، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك ، وطالت عليهم الآماد ، وهم على أول أعمالهم حرصا عليها ، واغتناما لها ; طمعا في رضى المحبوبين ، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم ، بل لذة لهم ونعيم ، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد ، وألم أليم ، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات ، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات .

              والثالث : ما يدل على هذا من الشرع ; كالذي جاء في وصال الصيام ، وقطع الأزمان في العبادات ; فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ، ثم فعله من بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم ، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ، ويقطعهم عن سلوك طريقهم ; فلا حرج في حقهم ، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته ، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك ; ، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها ، وهو غير منتهض إلا أن يجعل [ ص: 487 ] منضما إلى ما قبله ، فالاستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة .

              فإن قيل : الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة ; إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر ، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه ، فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة ، إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه ، وإذا كانت مأمورا بها ; فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة ، وإن كان الثاني فلا حرج في العمل ولا مشقة ، إلا [ ما ] في الأعمال المعتادة ، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة ، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما ; ارتفعت الرخصة من أصلها ، والاتفاق على وجودها معلوم ، هذا خلف ; [ ص: 488 ] فما انبنى عليه مثله .

              فالجواب من وجهين :

              أحدهما : أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر ; لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا ; إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها ، فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ، ولم يعتبر في الإلزامات .

              والثاني : إنه إن سلم ; فلا يلزم السؤال لأمرين :

              أحدهما : إن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه ; لإمكان قسم ثالث بينهما ، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل ، ولا يكون المكلف رخي البال عنده ، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم ، مع أنه لا يقطعه عن سفره ، ولا يخل به في مرضه ، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل ، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص ، جار فيه هذا التقسيم ، والثالث : هو محل الإباحة ; إذ لا جاذب [ له ] يجذبه لأحد الطرفين .

              والآخر : أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من جهة كونه [ ص: 489 ] رخصة ، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا ، فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ، ومع مدافعة الأخبثين ، ونحو ذلك ; فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هي [ ص: 490 ] رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق ، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية