الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) .

جبريل : اسم ملك علم له ، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف ، للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله ، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة . ومعنى جبر : عبد ، وإيل : اسم من أسماء الله ؛ لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي ، ولأنه لو كان مركبا تركيب الإضافة لكان مصروفا . وقال المهدوي : ومن قال : جبر ، مثل : عبد ، وإيل : اسم من أسماء الله ، جعله بمنزلة حضرموت . انتهى كلامه . يعني أنه يجعله مركبا تركيب المزج ، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب . وليس ما ذكر بصحيح ؛ لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة ، فيلزم الصرف في الثاني ، وإجراء الأول بوجوه الإعراب ، أو لا يلحظ ، فيركبه تركيب المزج . فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف ، فكونه لم يسمع فيه الإضافة ، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج . وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية ، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة . قالوا : [ ص: 318 ] جبريل : كقنديل ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص . وقال ورقة بن نوفل :


وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل



وقال عمران بن حطان :


والروح جبريل منهم لا كفاء له     وكان جبريل عند الله مأمونا



وقال حسان :


وجبريل رسول الله فينا     وروح القدس ليس له كفاء



وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة ، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن . قال الفراء : لا أحبها ؛ لأنه ليس في الكلام فعليل ، وما قاله ليس بشيء ؛ لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين : منه ما تلحقه بأبنية كلامها ، كلجام ، ومنه ما لا تلحقه بها ، كإبريسم . فجبريل ، بفتح الجيم ، من هذا القبيل . وقيل : جبريل مثل شمويل ، وهو طائر . وجبرئيل كعنتريس ، وهي لغة تميم ، وقيس ، وكثير من أهل نجد . حكاها الفراء ، واختارها الزجاج وقال : هي أجود اللغات . وقال حسان :


شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة     مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها



وقال جرير :


عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد     وبجبرئيل وكذبوا ميكالا



وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد ، عن أبي بكر ، عن عاصم . ورواها الكسائي ، عن عاصم ، وكذلك . إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة ، وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم . وتروى عن يحيى بن يعمر ، وكذلك . إلا أن اللام مشددة ، وهي قراءة أبان ، عن عاصم ويحيى بن يعمر . وجبرائيل وجبراييل ، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة . وجبرال وجبرائل بالياء والقصر ، وبها قرأ طلحة . وجبراييل بألف بعد الراء ، بعدها ياءان ، أولاهما مكسورة ، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضا . وجبرين وجبرين ، وهذه لغة أسد . وجبرائين . قال أبو جعفر النحاس : جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية . أذن به : علم به ، وآذنه : أعلمه . آذنتكم على سواء : أعلمتكم . ثم يطلق على التمكين . أذن لي في كذا : أي مكنني منه . وعلى الاختيار فعلته بإذنك : أي باختيارك . ميكائيل : الكلام فيه كالكلام في جبريل ، أعني من منع الصرف . وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله ، أو ذهب إلى أن معنى ميكا : عبد ، وإيل : اسم من أسماء الله تعالى ، وقد تصرفت فيه العرب . قالوا : ميكال ، كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص ، وهي لغة الحجاز . وقال الشاعر :


ويوم بدر لقيناكم لنا مددا فيه     مع النصر ميكال وجبريل



وكذلك . إلا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل ، وكذلك . إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر ، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي . وميكييل كميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن ، وكذلك . إلا أنه لا ياء بعد الهمزة . وقرئ بها : وميكاييل بياءين بعد الألف ، أولاهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش . نبذ الشيء ، ينبذه نبذا : طرحه وألقاه . الظهر : معروف ، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس : كظهور ، وعلى فعلان : كظهران ، وهو مشتق من الظهور . تقول : ظهر الشيء ظهورا ، إذا بدا . تلا يتلو : تبع . وتلا القرآن : قرأه . وتلا عليه : كذب ، قاله أبو مسلم . وقال أيضا : تلا عنه صدف ، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين . سليمان : اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية [ ص: 319 ] والعجمة ، ونظيره من الأعجمية ، في أن في آخره ألفا ونونا : هامان ، وماهان ، وسامان ، وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان ؛ لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف . والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية . السحر : مصدر سحر يسحر سحرا ، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل ، قاله بعض أهل العلم . قال الجوهري : كل ما لطف ودق فهو سحر . يقال سحره : أبدى له أمرا يدق عليه ويخفى . انتهى . وقال :


أداء عراني من حبائك أم سحر



ويقال سحره : خدعه ، ومنه قول امرئ القيس :


أرانا موضعين لأمر غيب     ونسحر بالطعام وبالشراب



أي : نعلل ونخدع . وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية . بابل : اسم أعجمي ، اسم أرض ، وسيأتي تعيينها . هاروت وماروت : اسمان أعجميان ، وسيأتي الكلام على مدلولهما ، ويجمعان على : هواريت ومواريت ، ويقال : هوارتة وموارتة ، ومثل ذلك : طالوت وجالوت . الفتنة : الابتلاء والاختبار . فتن يفتن فتونا وفتنة . المرء : الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقا ، وحكي الضم مطلقا ، وحكي إتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول : قام المرء : بضم الميم ، ورأيت المرء : بفتح الميم ، ومررت بالمرء : بكسر الميم ، ومؤنثه المرأة . وقد جاء جمعه بالواو والنون ، قالوا : المرءون . الضرر والنفع معروفان ، ويقال : ضر يضر ، بضم الضاد ، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره : الضر والضر والضرر ، ويقال : ضار يضير ، قال :


يقول أناس لا يضيرك نأيها     بلى كل ما شف النفوس يضيرها



ويقال : نفع ينفع نفعا . ورأيت في شرح الموجز الذي للرماني في النحو ، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي ، وليس بأبي علي الأهوازي المقري ، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع ، والقياس النحوي يقتضيه . الخلاق في اللغة : النصيب ، قاله الزجاج . قال : لكنه أكثر ما يستعمل في الخير ، قال :


يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم     إلا السرابيل من قطر وأغلال



والخلاق : القدر ، قال الشاعر :


فما لك بيت لدى الشامخات     وما لك في غالب من خلاق



مثوبة : مفعلة من الثواب ، نقلت حركة الواو إلى الثاء ، ويقال : مثوبة . وكان قياسه الإعلال فتقول : مثابة ، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة ، ونظيرهما في الوزن من الصحيح : مقبرة ومقبرة .

( قل من كان عدوا لجبريل ) : أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا : جبريل عدونا ، واختلف في كيفية ذلك ، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو محاورتهم مع عمر ؟ وملخص العداوة : أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه ؛ لأنه يأتي بالخصب والسلم ، ولكونه دافع عن بخت نصر حين أردنا قتله ، فخرب بيت المقدس وأهلكنا ، ولكونه يطلع محمدا - صلى الله عليه وسلم - على سرنا . والخطاب بقوله : قل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعمول القول : الجملة بعد . ومن هنا شرطية . وقال الراغب : العداوة : التجاوز ومنافاة الالتئام . فبالقلب يقال العداوة ، وبالمشي يقال العدو ، وبالإخلال في العدل يقال العدوان ، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدى ، أي غرباء .

التالي السابق


الخدمات العلمية