الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 480 ] ( فصل ) : وإن كان المعير للمسلمين من أمة الضلال وعباد الصليب والصور المدهونة في الحيطان والسقوف فيقال له : ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به ويعتقده : أن رب السماوات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط فالتحم ببطنها ، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم طمث ، ثم خرج إلى القماط والسرير كلما بكى ألقمته أمه ثديها ، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان ، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه ، وصفعهم قفاه ، وبصقهم في وجهه ، ووضعهم تاجا من الشوك على رأسه ، والقصبة في يده استخفافا به وانتهاكا لحرمته ، ثم قربوه من مركب خص بالبلاء ، فشدوه عليه وربطوه بالحبال ، وسمروا يديه ورجليه ، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصليب .

هذا وهو بزعمهم الذي خلق السماوات والأرض ، وقسم الأرزاق والآجال ، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن مكن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم ، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه ، فيخرجهم من سجن إبليس ، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكين أعدائه من صلبه .

[ ص: 481 ] وأما قولهم في مريم ، فإنهم يقولون : إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ، ووالدته في الحقيقة ، لا أم لابن الله إلا هي والدة ، ولا والدة له غيرها ، ولا أب إلا الله ، ولا والد له سواه ، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء ، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها ، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله ، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره ، ولا والد له سواه ، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تعالى والد ابنها ، وابنها عن يمينه . والنصارى يدعونها ويسألونها سعة الرزق ، وصحة البدن ، وطول العمر ، ومغفرة الذنوب ، وأن يكون لهم عند ابنها ووالده - الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها ، ولا ينكرون ذلك عليهم - سورا وسندا وذخرا وشفيعا وركنا ، ويقولون في دعائهم :

يا والدة الإله اشفعي لنا !

وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين ، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة .

حتى أن اليعقوبية يقولون في مناجاتهم لها : يا مريم ، يا والدة الإله ، كوني لنا سورا وسندا وذخرا وركنا .

والنسطورية تقول : يا والدة المسيح كوني لنا كذلك .

ويقولون لليعقوبية : لا تقولوا : يا والدة الإله ، وقولوا يا والدة المسيح ، فقالت لهم اليعقوبية : المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة ، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك ؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ، ومقارنتهم في التوحيد .

[ ص: 482 ] هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة الضالة تعتقد أن الله سبحانه وتعالى اختار مريم لنفسه ، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة .

قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم : وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به ، وقد قال ابن الإخشيد هذا عنهم في المعونة .

وقال : إليه يشيرون ، ألا ترون أنهم يقولون : من لم يكن والدا يكون عقيما والعقم آفة وعيب .

وهذا قول جميعهم ، وإلى المباضعة يشيرون ، ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم .

فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له ، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين : أهينوهم ولا تظلموهم ، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه أحد من البشر .

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال : شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، أما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته .

[ ص: 483 ] فلو أتى الموحدون بكل ذنب وفعلوا كل قبيح وارتكبوا كل معصية ، ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين ، ومسبته هذا السب ، وقول العظائم فيه ، فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعل بهم إذا لقوه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ويسأل المسيح على رءوس الأشهاد وهم يسمعون ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيقول المسيح مكذبا لهم : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد .

( فصل ) : فهذا أصل دينهم وأساسه الذي قام عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية