الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

فلنرجع إلى فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر طرف من فتاويه في الأطعمة .

[ فتاوى في الأطعمة ] { وسئل صلى الله عليه وسلم عن الثوم : أحرام هو ؟ قال لا ، ولكني أكرهه من أجل رائحته } ذكره مسلم .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم أبو أيوب : هل يحل لنا البصل ؟ فقال بلى ، ولكني يغشاني ما لا يغشاكم } ذكره أحمد .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الضب ، أحرام هو ؟ فقال لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه } متفق عليه .

[ ص: 289 ] { وسئل صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفرا ، فقال الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرمه الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه } ذكره ابن ماجه .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الضبع ، فقال أويأكل الضبع أحد ؟ } .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الذئب ، فقال أو يأكل الذئب أحد فيه خير ؟ } ذكره الترمذي ، وعند ابن ماجه قال : قلت { : يا رسول الله ما تقول في الضبع ؟ قال : ومن يأكل الضبع ؟ } وإن صح حديث جابر في إباحة الضبع فإن في القلب منه شيئا ، كان هذا الحديث يدل على ترك أكله تقذرا أو تنزها ، والله أعلم .

{ وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ ، فقال سموا أنتم وكلوا } ذكره البخاري .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : أنأكل ما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } } إلى آخر الآية ، هكذا ذكره أبو داود ، وأن الذي سأل هذا السؤال هم اليهود ، والمشهور في هذه القصة أن المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال ، وهو الصحيح ، ويدل عليه كون السورة مكية ، وكون اليهود يحرمون الميتة كما يحرمها المسلمون ، فكيف يوردون هذا السؤال وهم يوافقون على هذا الحكم ؟ ويدل عليه أيضا قوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } فهذا سؤال مجادل في ذلك ، واليهود لم تكن تجادل في هذا ، وقد رواه الترمذي بلفظ ظاهره أن بعض المسلمين سأل هذا السؤال ، ولفظه { أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أنأكل مما نقتل ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } إلى قوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } } وهذا لا يناقض كون المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال ; فسأل عنه المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحسب قوله { إن اليهود سألوا عن ذلك } إلا وهما من أحد الرواة ، والله أعلم .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي ، فحرمت علي اللحم ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } } ذكره الترمذي .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقال : إن أرضنا أرض أهل كتاب ، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : [ ص: 290 ] إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا قال : قلت : يا رسول الله ما يحل لنا وما يحرم علينا ؟ قال : لا تأكلوا لحم الحمر الإنسية ، ولا يحل أكل كل ذي ناب من السباع } ذكره أحمد ، وقد ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال : { أكل كل ذي ناب من السباع حرام } وهذان اللفظان يبطلان [ قول ] من تأول نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع بأنه نهي كراهة ; فإنه تأمل فاسد قطعا ، وبالله التوفيق .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم : أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ فقال : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك } ذكره أبو داود ، وقال : هذا ذكاة المتردي ، وقال يزيد بن هارون : هذا للضرورة ، وقيل : هو في غير المقدور عليه .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الجنين يكون في بطن الناقة أو البقرة أو الشاة أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه } ذكره أحمد وهذا يبطل تأويل من تأول الحديث أنه يذكى كما تذكى أمه ثم يؤكل ; فإنه أمرهم بأكله ، وأخبر أنه ذكاة أمه ذكاة له ، وهذا ; لأنه جزء من أجزائها ، فلم يحتج إلى أن يفرد بذبح كسائر أجزائها .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج فقال : إنا لاقو العدو غدا ، وليست معنا مدى ، أفتذكى بالليطة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ، إلا ما كان من سن أو ظفر ، فإن السن عظم ، والظفر مدى الحبشة } متفق عليه ، والليطة : الفلقة من القصب .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم رضي الله عنه ، فقال : إن أحدنا ليصيب الصيد وليس معه سكين ، أيذبح بالمروة وشقة العصا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرر الدم واذكر اسم الله } ذكره أحمد .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة حل بها الموت ، فأخذت جارية حجرا فذبحتها به ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها ، } ذكره البخاري .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة نيب فيها الذئب ، فذبحوها بمروة ، فرخص لهم في أكلها ، } ذكره النسائي .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن أكل الحوت الذي جزر البحر عنه ، فقال : كلوا رزقا أخرجه الله لكم ، وأطعمونا إن كان معكم } متفق عليه .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخشني ، فقال : إنا بأرض صيد ، أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم ، فما يصلح لي ؟ فقال ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم [ ص: 291 ] فأدركت ذكاته فكل } متفق عليه ، وهو صريح في اشتراط التسمية لحل الصيد ، ودلالته على ذلك أصرح من دلالته على تحريم صيد غير المعلم .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم ، فقال : إني أرسل كلابي المعلمة فيمسكن علي واذكر اسم الله ، فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت : وإن قتلن ؟ قال وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها قلت : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ، فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله } متفق عليه . وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : { إلا أن يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ; فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } . وفي بعض ألفاظه : { إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ، ولم يأكل منه فكله ; فإن أخذ الكلب ذكاته } وفي بعض ألفاظه : { إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله } وفيه { فإن غاب عنك اليومين أو الثلاثة ، ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ، فإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ; فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك } .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخشني فقال : يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها ، فقال : إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك فقال : يا رسول الله ذكي أو غير ذكي ؟ قال : ذكي وغير ذكي قال : وإن أكل منه ؟ قال : وإن أكل منه قال : يا رسول الله أفتني في قوسي ، قال : كل ما أمسكت عليك قوسك قال : ذكي وغير ذكي ؟ قال : ذكي وغير ذكي قال : وإن تغيب عني ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم يصل يعني يتغير أو تجد فيه أثرا غير أثر سهمك } ذكره أبو داود .

ولا يناقض هذا قوله لعدي بن حاتم { وإن أكل منه فلا تأكل } فإن حديث عدي فيما أكل منه حال صيده ; إذ يكون ممسكا على نفسه ، وحديث أبي ثعلبة فيما أكل منه بعد ذلك ، فإنه يكون قد أمسك على صاحبه ثم أكل منه بعد ذلك ، وهذا لا يحرم كما لو أكل مما ذكاه صاحبه .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الذي يدرك صيده بعد ثلاث ، فقال : كله ما لم ينتن } ذكره مسلم .

[ ص: 292 ] { وسأله صلى الله عليه وسلم أهل بيت كانوا في الحرة محتاجين ماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم ، فرخص لهم في أكلها فعصمتهم بقية شتائهم ، } ذكره أحمد . وعند أبي داود { أن رجلا نزل بالحرة ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن لي ناقة قد ضلت ; فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها ، فمرضت ، فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها نأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال له : هل عندك ما يغنيك ؟ قال : لا ، قال فكلوه قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ، قال : استحييت منك ، وفيه دليل على جواز إمساك الميتة للمضطر } .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : من الطعام طعام نتحرج منه ، فقال : لا يختلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية } ذكره أحمد ، ومعناه - والله أعلم - النهي عما شابه طعام النصارى ، يقول : لا تشكن فيه ، بل دعه ، فأجابه بجواب عام ، وخص النصارى دون اليهود ; لأن النصارى لا يحرمون شيئا من الأطعمة ، [ بل ] يبيحون ما دب ودرج من الفيل إلى البعوض .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر فقال : إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا ، فما ترى ؟ فقال إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم } ذكره البخاري ، وعند الترمذي ، { إنا نمر بقوم فلا يضيفوننا ، ولا يؤدون ما لنا عليهم من الحق ، ولا نحن نأخذ منهم ، فقال : إن أبوا إلا أن تأخذوا قرى فخذوه } ، وعند أبي داود { ليلة الضيق حق على كل مسلم ، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه ، إن شاء اقتضاه ، وإن شاء تركه } ، وعنده أيضا { من نزل بقوم فعليهم أن يقروه ، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه } .

وهو دليل على وجوب الضيافة ، وعلى أخذ الإنسان نظير حقه ممن هو عليه إذا أبى دفعه ، وقد استدل به في مسألة الظفر ، ولا دليل فيه ; لظهور سبب الحق ههنا ، فلا يتهم الآخذ كما تقدم في قصة هند مع أبي سفيان .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فقال : الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني ، ثم يمر بي أفأجزيه ؟ قال : لا ، بل أقره قال : ورآني - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - رث الثياب ، فقال هل لك [ ص: 293 ] من مال ؟ قال : قلت : من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم ، قال فلير عليك } ذكره الترمذي .

{ وسئل صلى الله عليه وسلم عن جائزة الضيف ، فقال يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة ، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه } متفق عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية