الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثاني : الخبر الذي لو كان صحيحا لتوفرت الدواعي على نقله متواترا ، إما لكونه من أصول الشريعة ، وإما لكونه أمرا غريبا ، كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة . ويتفرع على هذا الأصل مسائل : منها : بطلان النص الذي تزعم الروافض أنه دل على إمامة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فعدم تواتره دليل على عدم صحته . قال : إمام الحرمين : ولو كان حقا لما خفي على أهل بيعة الثقيفة ، ولتحدثت به المرأة على مغزلها ولا بد أن يخالف أو يوافق .

                                                      وبهذا المسلك أيضا تبين بطلان قول من يقول : إن القرآن قد عورض ، فإن ذلك لو جرى لما خفي ، والنص الذي تزعم العيسوية أن في التوراة أن موسى عليه السلام آخر مبعوث ، ومستند هذا الحكم الرجوع إلى العادة واقتضائها الاشتهار في ذلك ، والشيعة تخالف في ذلك ، ويقولون : يجوز أن لا يشتهر لخوف أو فتنة ، وهو باطل لما يعلم بالعادة في مثله . وليس من هذا ما قدح به الروافض علينا ، مثل قولهم : إنه عليه السلام حج مرة واحدة ، واختلف الناس في نفس حجته اختلافا لم يتحصل المختلفون فيه على يقين ، وكذا الاختلاف في فتح مكة . هل كان صلحا أو عنوة ؟ [ ص: 124 ] وكذا الإقامة في طول عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يختلفون في تثنيتها وإفراده ، مع أن ذلك مما تتوفر فيه الدواعي على نقله .

                                                      قلنا : أمر القران والإفراد والتمتع واضح ; لأنه لما تقرر عند الكل جواز الكل لم يعتنوا بالتفتيش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقن الخلق إضافة الحج ، فناقل الإفراد سمعه يلقن غيره ذلك ، وناقل التمتع كذلك . وكذلك فتح مكة ، نقل أنه على هيئة العنوة والقهر ، وصح أنه لم يأخذ مالا ، وتواتر ذلك . وإنما الخلاف في أحكام جزئية كمصالحة جرت على الأراضي وغيرها مما يتعلق بها منع بيع دور مكة أو تجويزه . قال القاضي أبو بكر : وصورة دخوله عليه السلام متسلحا بالألوية والرايات وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان ، ومن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة غير مختلف فيه ، وإنما استدل بعض الفقهاء على أنه كان صلحا بأنه ودى قوما قتلهم خالد ، ونهيه عن ذلك ، وغير هذا مما يجوز فيه التأويل . وأما الإقامة فتثنيتها وإفرادها ليس من عظائم العزائم ، ولولا اشتهارها بين أصحاب المذاهب ، لم تعلم العامة تفصيلها ، فإنها لا تهمهم ، والعصور تناسخت ، وتعلقت الإقامة بالبدل ، وشعائر الملوك ، ولا كذلك أمر الإمامة ، فإنها من مهمات الدين وتتعلق بعزائم الخطوب ، ويستحيل تقدير [ ص: 125 ] دثورها على قرب العهد بالرسول . وأما انشقاق القمر فمنهم من أنكره ; لأنه لم يتواتر ، وهو لا تتوفر الدواعي على نقله ، ونقل ذلك عن الحليمي .

                                                      هكذا حكاه عنه إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي ، وقال القاضي أبو بكر : إنما لم يتواتر ; لأنه آية ليلية ، تكون والناس نيام غافلون ، وإنما يرى ذلك من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ، وصرف همته إلى النظر فيه ، وإنما انشق منه شعبة في مثل طرف القمر ، ثم رجع صحيحا ، وكم من انقضاض ورياح تحدث بالليل ، ولا يشعر بها أحد ، فلهذا لم ينقل ظاهرا ، وإنما يستدل أكثر الناس على انشقاقه بقوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } وأنه لو أراد الإخبار عن اقتراب انشقاقه ، لوجب أن يقول : وانشقاق القمر ، ولوجب أن يعرفهم الرسول أن من الآيات المستقبلة انشقاقه . ا هـ .

                                                      والحق أنه متواتر وقد رواه خلق من الصحابة ، وعنهم خلق كما أوضحته في تخريج أحاديث المختصر " . ومنها : أن القراءات الشاذة لا يجوز إثباتها في المصحف ; لأن الاهتمام به من الصحابة الذين بذلوا أرواحهم في إحياء معالم الدين يمنع تقدر درسه ، وارتباط مسائله بلا حاجة . فإن قيل : فلم اختلفوا في البسملة أنها من القرآن أم لا ؟ قيل : لأنه لم يجز دروس رسمها ونظمها ، فلم يكن ; لنقل [ ص: 126 ] كونها من السور كبير أثر في الدين بعد الاهتمام به ، ولهذا اختلفت معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فمنها ما نقل متواترا ، ومنها ما نقل آحادا مع أنها أعاجيب خارقة للعادة ، وكذا إذا كثرت المعجزات ، وكثرت فيها عسرتهم مثل تشوقهم إلى نقل آحادها ، وكذلك اختلفت الصحابة في القراءات الشاذة ، ولم يهتم عثمان بجمع الناس على بعض القراءات ، وحرص ابن مسعود على ذلك . فإن قيل : يجري ذلك في القرآن ؟ قلنا : لما كان القرآن ركن الدين استوت الأمة في الاعتناء به ، فلم نجز أن ينقل بعضه متواترا وبعضه آحادا مع استواء الجميع في توفر الدواعي على نقله ، بخلاف باقي المعجزات ، فإنهم اعتنوا بنقل ما يبقى رسمه أبد الدهر ، وقد صنف القاضي أبو بكر في هذا النوع كتاب الانتصار " ، وما أعجبه من كتاب ، فقد أزال به الحائك عن صدور المرتابين .

                                                      ومنها : لو غص المجلس بجمع كثير ، ونقل كلهم عن صاحب المجلس حديثا ، وانفرد واحد منهم ، وهو ثقة بنقل زيادة ، فذهب بعضهم إلى أنها ترد ، وإلا لنقلها الباقون ، وهو بعيد ، فإن انفراد بعض النقلة بمزيد حفظ لا ينكر ، والقرائح والفطن تختلف ، وليست الروايات مما تتكرر على الألسنة ، حتى لا يشذ شيء منها ، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى ، وبنى بعض الحنفية على هذا الأصل رد أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى كمس الذكر ، والجهر بالبسملة ، وستأتي إن شاء الله تعالى . قال القاضي في التقريب " : وإنما قبلت من الواحد ; لأنه لم يقع الإخبار بها بحضرة من يجب توفر دواعيهم على النقل والإظهار لذلك ، وإنما كان يلقيه إلى الآحاد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية