الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) تعدت اتخذ هنا لمفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى . قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعا في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم . وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازا . وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أربابا حقيقة . ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيرا ، وقالوا بالاتحاد . وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر . وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشيا في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقى من أتباعه ادعى الإلهية . وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة ؟ انتهى . وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتابا في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وإبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بـ " لورقة " ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضا ، والعفيف التلمساني . وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب . وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب . وكان أبو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطا له خلطة كثيرة ، وكان متهما بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هاربا إلى الشام من القتل على الزندقة . وأما ملوك العبيديين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي ، وآخرهم سليمان المتلقب بالعاضد . والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع . أخبر عن المجموع ، وعاد كل إلى ما يناسبه ؛ أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم . ( والمسيح ابن مريم ) عطف على ( رهبانهم ) .

( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ; أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم . وقيل : في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الكتب الثلاثة . وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء . وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة . وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أربابا ; أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون ؟ وفي قوله : ( عما يشركون ) دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى .

التالي السابق


الخدمات العلمية