الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل [ ص: 354 ] أخرج الحاكم وصححه عن المستورد قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكروا الدنيا والآخرة فقال بعضهم : إنما الدنيا بلاغ للآخرة، فيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة وقالت طائفة منهم : الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل أصبعه فيه فما خرج منه فهي الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن المستورد بن شداد قال : كنت في ركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بسخلة ميتة فقال : أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا : من هوانها ألقوها يا رسول الله قال : فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جعل الدنيا قليلا، وما بقي منها إلا القليل كالثغب يعني الغدير شرب صفوه وبقي كدره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال : يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا فقال : ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي والذي نفسي بيده [ ص: 355 ] ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يا رسول الله : لو اتخذنا لك فقال : ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال : أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا : نعم يا رسول الله، قال : والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن [ ص: 356 ] أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن أبي الدنيا في كتاب "المنامات" والحاكم وصححه والبيهقي عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن قتادة بن النعمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله عبدا حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي جحيفة قال : أكلت لحما [ ص: 357 ] كثيرا وثريدا ثم جئت فقعدت حيال النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتجشأ فقال : أقصر من جشائك؛ فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه وإياك ومجالسة الأغنياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن سعد بن طارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه، وإذا قال العبد : قبح الله الدنيا، قالت الدنيا : قبح الله أعصانا لربه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي ، عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ رجلا فقال : ازهد الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 358 ] وأخرج أحمد ، والحاكم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وسنته، فإذا خرج من الدنيا فارق السجن والسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم والبيهقي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء، ومن لم يتق الله فليس من الله في شيء ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أشياخه قال : دخل سعد على سلمان يعوده فبكى، فقال سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض وتلقى أصحابك، قال : ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا، قال : ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وحولي هذه الأساودة قال : وإنما حوله [ ص: 359 ] إجانة وجفنة ومطهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه، وضعفه الذهبي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا، ولا يزدادون من الله إلا بعدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، في "الزهد" عن سفيان قال : كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري : إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا . وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح ذبابة ما سقى فرعون منها شربة ماء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 360 ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، ومسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها، فلينظر بم يرجع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي عثمان النهدي قال : قلت يا أبا هريرة : سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة فقال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا هذه الآية : فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل فالدنيا ما مضى منها إلى ما بقي منها عند الله قليل وقال الله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [البقرة : 245] فكيف الكثير عند الله تعالى إذا كانت الدنيا ما مضى منها وما بقي عند الله قليل؟

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله : فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل قال : كزاد الراعي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 361 ] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حازم قال : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه . فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كثير؟ ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟! ثم ولى ظهره وبكى وقال : أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل، وإن كان قليلك لقصر، وإن كنا منك لفي غرور .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية