الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] الوجه الثالث والأربعون

أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية ـــ التي يسمونها العقليات ــــ تفيد اليقين، فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية.

ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق،
والإعراض عما جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل، كما قال: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب [سورة غافر: 5].

[ ص: 4 ] وقوله تعالى: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد [سورة غافر: 4].

وقوله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [سورة الأنعام: 112-113]، وأمثال ذلك، وهذا باب واسع في كتاب الله.

ومقصودنا تنبيه المؤمنين على حال مثل هؤلاء في كتاب الله، وإلا فالمقصود هنا دفعهم عن الرسل. ومن جاهد الكفار والمنافقين لم يحتج عليهم بأقوال من كذبوه من المرسلين، ولكن المؤمن بالرسل يستفيد بهذا: إن جنس هؤلاء هم المكذبون للرسل.

وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك:

الأول: أن نبين فساد ما ادعوه معارضا للرسول صلى الله عليه وسلم من عقلياتهم.

الثاني: أن نبين أن ما جاء به الرسول معلوم بالضرورة من دينه، أو معلوم بالأدلة اليقينية، وحينئذ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك، وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول.

[ ص: 5 ] الثالث: أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه، إما بأن ذلك معلوم بضرورة العقل، وإما بأنه معلوم بنظره، وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقا، سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول، وبأنه أخبر بذلك، أو لم يكن كذلك، فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة، وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا.

وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم، والذين قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو [لله] ونحوها، فإن النصوص التي في الكتاب والسنة بإثبات علو الله على خلقه كثيرة منتشرة، قد بهرتهم بكثرتها وقوتها، وليس معهم في نفي ذلك لا آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قول أحد من سلف الأمة، إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب، كحديث عوسجة وأمثاله، وإما أن يحتجوا بما يعلم أنه لا دلالة له على مطلوبهم، كاستدلالهم بأنه أحد، والأحد لا يكون فوق العرش، [ ص: 6 ] لأنه لو كان فوق العرش لم يكن أحدا، بناء على أن ما فوق العرش يكون جسما، والجسم منقسم فلا يكون أحدا، والأجسام متماثلة، فيكون له كفو ونظير.

وقد بين فساد مثل هذه الأدلة السمعية بوجوه كثيرة في غير هذا الموضع، وبينا أن اسم "الواحد" و"الأحد" لا يقع في لغة العرب إلا على نقيض مطلوبهم، كقوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [سورة التوبة: 6].

وقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا [سورة المدثر: 11]، وقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف [سورة النساء: 11]، وقوله: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [سورة البقرة: 266]، وقوله: فابعثوا أحدكم بورقكم [سورة الكهف: 19] إلى قوله: ولا يشعرن بكم أحدا [سورة الكهف: 19]، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت [سورة البقرة: 185]، وقوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت [سورة المائدة: 106]، وقوله: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة [سورة البقرة: 96]، وقوله: ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص: 4]، وقوله: [ ص: 7 ] قل إني لن يجيرني من الله أحد [سورة الجن: 22]، وقوله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [سورة الكهف: 110]، وأمثال ذلك كثير، وأن لفظ "المثل" و"المساوي" منتفيان في لغة العرب عما ادعوا هم تماثلهما وتساويهما.

كقوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [سورة محمد: 38]، فقد نفى التماثل عن صنفين من بني آدم، فنفي التماثل عن الحيوان، والإنسان، والفلك، والتراب أولى.

فعلم أنه ليس في لغة العرب أن يكون كل ما كان متحيزا مماثلا لكل ما هو متحيز، وإن ادعى بعض المتكلمين تماثل ذلك عقلا، فالمقصود أن هذا ليس مثلا في اللغة.

والقرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حمله على اصطلاح حادث ليس من لغتهم، لو كان معناه صحيحا، فكيف إذا كان باطلا في العقل؟

وقوله تعالى: وما يستوي الأعمى والبصير [سورة فاطر: 19]، وما يستوي الأحياء ولا الأموات [سورة فاطر: 22]، وقوله: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة [سورة فاطر: 20].

[ ص: 8 ] وعقلاؤهم يعلمون فساد ما يستدلون به من الأدلة الشرعية. وكلهم يعترف بأن مثل هذه الأدلة لا تعارض ما في القرآن من إثبات العلو والفوقية ونحو ذلك.

ولهذا لم يكن معهم على نفي ذلك أصل يعتصمون به من جهة الرسول [صلى الله عليه وسلم]، وإنما يتمسكون بما يظنونه من العقليات، فيحتاجون إلى بيان تقديم ذلك على الأدلة الشرعية.

وإذا كان كذلك، فنحن نبين أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية، لا معارضة لها، ونذكر ما ذكروه هم في ذلك ليكون أبلغ في الحجة.

التالي السابق


الخدمات العلمية