الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " ضربت عليهم الذلة " ، ألزموا الذلة . و"الذلة " "الفعلة " من "الذل " ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع .

"أينما ثقفوا " يعني : حيثما لقوا .

يقول جل ثناؤه : ألزم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض ، وبأي مكان كانوا من بقاعها ، من بلاد المسلمين والمشركين " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، كما : -

7630 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف ، عن [ ص: 111 ] الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " ، قال : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية .

7631 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين .

وأما "الحبل " الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم ، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام . كما : -

7632 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا بحبل من الله " ، قال : بعهد " وحبل من الناس " ، قال : بعهدهم .

7633 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

7634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

7635 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا يزيد ، عن عثمان بن غياث ، قال : عكرمة : يقول : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس . [ ص: 112 ]

7636 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

7637 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .

7638 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فهو عهد من الله وعهد من الناس ، كما يقول الرجل : "ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فهو الميثاق .

7639 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : بعهد من الله وعهد من الناس لهم قال ابن جريج ، وقال عطاء : العهد حبل الله .

7640 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، قال : إلا بعهد ، وهم يهود . قال : والحبل العهد . قال : وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة : "أيها الرجل ، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس " ، يقول : عهودا ، قال : واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل . وقرأ : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) [ سورة آل عمران : 55 ] ، قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون ، قال الله : ( وقطعناهم في الأرض أمما ) [ ص: 113 ] [ سورة الأعراف : 168 ] ، يهود .

7641 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، يقول : بعهد من الله وعهد من الناس .

7642 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .

قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب "الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، فقال بعض نحويي الكوفة : الذي جلب "الباء " في قوله : "بحبل " ، فعل مضمر قد ترك ذكره . قال : ومعنى الكلام : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، إلا أن يعتصموا بحبل من الله فأضمر ذلك ، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :

رأتني بحبليها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق

وقال : أراد : أقبلت بحبليها ، وبقول الآخر :

[ ص: 114 ]     حنتني حانيات الدهر حتى
كأني خاتل أدنو لصيد     قريب الخطو يحسب من رآني
ولست مقيدا ، أني بقيد

فأوجب إعمال فعل محذوف ، وإظهار صلته وهو متروك . وذلك في مذاهب العربية ضعيف ، ومن كلام العرب بعيد . وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات ، فغير دال على صحة دعواه ، لأن في قول الشاعر : "رأتني بحبليها " ، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكا ، ففي إخباره عنها أنها "رأته بحبليها " ، إخبار منه أنها رأته ممسكا بالحبلين . فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر "الإمساك " ، وكانت "الباء " صلة لقوله : "رأتني " ، كما في قول القائل : "أنا بالله " ، مكتف بنفسه ، ومعرفة السامع معناه ، أن تكون "الباء " محتاجة إلى كلام يكون لها جالبا غير الذي ظهر ، وأن المعنى : "أنا بالله مستعين " . [ ص: 115 ]

وقال بعض نحويي البصرة ، قوله : " إلا بحبل من الله " استثناء خارج من أول الكلام . قال : وليس ذلك بأشد من قوله : ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) [ سورة مريم : 62 ]

وقال آخرون من نحويي الكوفة : هو استثناء متصل ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ، أي : بكل مكان إلا بموضع حبل من الله ، كما تقول : ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان .

وهذا أيضا طلب الحق فأخطأ المفصل . وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل ، ولو كان متصلا كما زعم ، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة . وليس ذلك صفة اليهود ، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس ، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس ، فالذلة مضروبة عليهم ، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل . فلو كان قوله : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم . وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم ، وخلاف ما هم به من الصفة ، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا .

قال أبو جعفر : ولكن القول عندنا أن "الباء " في قوله : " إلا بحبل من الله " ، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى "الباء " . وذلك أن معنى قوله : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا " ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا ثم قال : " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " على غير وجه الاتصال بالأول ، ولكنه على الانقطاع عنه . ومعناه : ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ، [ ص: 116 ] كما قيل : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) [ سورة النساء : 92 ] ، فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستثناء ، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى : "إلا خطأ " ، فإن له قتله كذلك ولكن معناه : ولكن قد يقتله خطأ . فكذلك قوله : " أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وإن كان الذي جلب "الباء " التي بعد "إلا " الفعل الذي يقتضيها قبل "إلا " ، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله ، بمعنى : أن القوم إذا لقوا ، فالذلة زائلة عنهم ، بل الذلة ثابتة بكل حال . ولكن معناه ما بينا آنفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية