الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ليسوا سواء " ، ليس فريقا أهل الكتاب ، أهل الإيمان منهم والكفر : سواء . يعني بذلك : أنهم غير متساوين . يقول : ليسوا متعادلين ، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد ، والخير والشر . .

وإنما قيل : " ليسوا سواء " ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده ، المؤمنة منهما والكافرة فقال : " ليسوا سواء " ، أي : ليس هؤلاء سواء ، المؤمنون منهم والكافرون . ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل [ ص: 119 ] الكتاب ، ومدحهم ، وأثنى عليهم ، بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ، ونخب الجنان ، ومحالفة الذل والصغار ، وملازمة الفاقة والمسكنة ، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة ، فقال : " من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " ، الآيات الثلاث ، إلى قوله : " والله عليم بالمتقين " .

فقوله : " أمة قائمة " مرفوعة بقوله : " من أهل الكتاب " .

وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدمين منهم في صناعتهم : أن ما بعد "سواء " في هذا الموضع من قوله : " أمة قائمة " ، ترجمة عن "سواء " وتفسير عنه ، بمعنى : لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة . وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين ، وهي "الأمة القائمة " ، ومثلوه بقول أبي ذؤيب :

عصيت إليها القلب : إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها ؟

ولم يقل : "أم غير رشد " ، اكتفاء بقوله : "أرشد " من ذكر "أم غير رشد " ، . وبقول الآخر :

    أراك فلا أدري أهم هممته ؟
وذو الهم قدما خاشع متضائل [ ص: 120 ]

قال أبو جعفر : وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل المريد أن يقول : "سواء أقمت أم قعدت " : "سواء أقمت " ، حتى يقول : "أم قعدت " . ، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيا بواحد ، دون ما كان ناقصا عن ذلك ، وذلك نحو : "ما أبالي " أو "ما أدري " ، فأجازوا في ذلك : "ما أبالي أقمت " ، وهم يريدون : "ما أبالي أقمت أم قعدت " ، لاكتفاء "ما أبالي " بواحد وكذلك في "ما أدري " . وأبوا الإجازة في "سواء " ، من أجل نقصانه ، وأنه غير مكتف بواحد ، فأغفلوا في توجيههم قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " على ما حكينا عنهم ، إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع "سواء " ، وأخطأوا تأويل الآية . ف "سواء " في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء ، لا بالمعنى الذي تأوله من حكينا قوله .

وقد ذكر أن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآيات الثلاث ، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم .

ذكر من قال ذلك :

7644 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا [ ص: 121 ] فيه ، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله " إلى قوله : " وأولئك من الصالحين " .

7645 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه .

7646 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية ، يقول : ليس كل القوم هلك ، قد كان لله فيهم بقية .

7647 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " أمة قائمة " ، عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سلام أخوه ، وسعية ، ومبشر ، وأسيد وأسد ابنا كعب .

وقال آخرون : معنى ذلك : ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله ، سواء عند الله .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 122 ]

7648 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الحسن بن يزيد العجلي ، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم .

7649 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود ، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة .

قال أبو جعفر : وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : قد تمت القصة عند قوله : " ليسوا سواء " ، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم ، وأن قوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم ، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج .

ويعني جل ثناؤه بقوله : " أمة قائمة " ، جماعة ثابتة على الحق .

وقد دللنا على معنى "الأمة " فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

وأما "القائمة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : معناها : العادلة .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 123 ]

7650 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أمة قائمة " ، قال : عادلة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه .

ذكر من قال ذلك :

7651 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده .

7652 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " أمة قائمة " ، يقول : قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه .

7653 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " من أهل الكتاب أمة قائمة " ، يقول : أمة مهتدية ، قائمة على أمر الله ، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه .

وقال آخرون . بل معنى "قائمة " ، مطيعة .

ذكر من قال ذلك :

7654 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أمة قائمة " ، الآية ، يقول : ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله ، و"القانتة " ، المطيعة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم ، وإن كان سائر الأقوال الأخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك . وذلك أن معنى قوله : "قائمة " ، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه ، والعدل والطاعة [ ص: 124 ] وغير ذلك من أسباب الخير ، من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

7655 - " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم ركبوا سفينة " ، ثم ضرب لهم مثلا . .

فالقائم على حدود الله : هو الثابت على التمسك بما أمره الله به ، واجتناب ما نهاه الله عنه .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله ، متمسكة به ، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية