الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25) ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28)



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الشوط جولة في مجال آخر، تخدم القضية التي تعالجها السورة، وتأخذ القلب البشري من جانب غير الجوانب التي عالجها الشوطان الأولان.. جولة في مصرع عاد ومصارع القرى غيرها حول مكة. وقد وقفوا من رسولهم وأخيهم هود - عليه السلام - موقف المشركين من رسولهم وأخيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - واعترضوا اعتراضاتهم، وأجابهم نبيهم بما يليق به من أدب النبوة في حدود بشريته وحدود وظيفته. ثم أخذهم ما أخذهم من العذاب المدمر، حين لم يسمعوا النذير. فلم تغن عنهم قوتهم - وكانوا أقوى - ولم يغن عنهم ثراؤهم - وكانوا أغنى - ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم - وكانوا أذكياء - ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتخذوها تقربا - بزعمهم - إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3266 ] وكذلك يقف المشركين في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم; فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم. ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل. خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل. وتبدو شجرة العقيدة عميقة الجذور، ممتدة الفروع ضاربة في أعماق الزمان; واحدة على اختلاف القرون واختلاف المكان.

                                                                                                                                                                                                                                      واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف - وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه - ألا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأخو عاد هو هود - عليه السلام - يذكره القرآن هنا بصفته. صفة الأخوة لقومه. ليصور صلة الود بينه وبينهم، وصلة القرابة التي كانت كفيلة بأن تعطفهم إلى دعوته، وتحسن ظنهم بها وبه. وهي ذات الصلة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه الذين يقفون منه موقف الملاحاة والخصومة.

                                                                                                                                                                                                                                      والأحقاف جمع حقف. وهو الكثيب المرتفع من الرمال. وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة - يقال في حضرموت.

                                                                                                                                                                                                                                      والله - سبحانه - يوجه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر أخا عاد وإنذاره لقومه بالأحقاف. يذكره ليتأسى بأخ له من الرسل لقي مثلما يلقى من إعراض قومه وهو أخوهم. ويذكره ليذكر المشركين في مكة بمصير الغابرين من زملائهم وأمثالهم، على مقربة منهم ومن حولهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنذر أخو عاد قومه، ولم يكن أول نذير لقومه. فقد سبقته الرسل إلى أقوامهم..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ..

                                                                                                                                                                                                                                      قريبا منه وبعيدا عنه في الزمان وفي المكان. فالنذارة متصلة، وسلسلة الرسالة ممتدة. والأمر ليس بدعا ولا غريبا. فهو معهود مألوف.

                                                                                                                                                                                                                                      أنذرهم - ما أنذر به كل رسول قومه - : ألا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .. وعبادة الله وحده عقيدة في الضمير ومنهج في الحياة; والمخالفة عنها تنتهي إلى العذاب العظيم في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما على السواء. والإشارة إلى اليوم عذاب يوم عظيم .. تعني حين تطلق يوم القيامة وهو أشد وأعظم.

                                                                                                                                                                                                                                      فماذا كان جواب قومه على التوجيه إلى الله، والإنذار بعذابه؟

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين! ..

                                                                                                                                                                                                                                      سوء الظن وعدم الفهم، والتحدي للنذير، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به، والاستهزاء والتكذيب. وإصرار على الباطل واعتزاز!

                                                                                                                                                                                                                                      فأما هود النبي فيتلقى هذا كله في أدب النبي، وفي تجرده من كل ادعاء، وفي الوقوف عند حده لا يتعداه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: إنما العلم عند الله. وأبلغكم ما أرسلت به. ولكني أراكم قوما تجهلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنما أنذركم بالعذاب كما كلفت أن أنذركم. ولست أعلم متى يحين موعده، ولا كيف يكون شكله. فعلم ذلك عند الله. وإنما أنا مبلغ عن الله. لا أدعي علما ولا قدرة مع الله.. ولكني أراكم قوما تجهلون وتحمقون. وأية حماقة وأي جهل أشد من استقبال النذير الناصح والأخ القريب بمثل هذا التحدي والتكذيب؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3267 ] ويجمل السياق هنا ما كان بين هود وقومه من جدل طويل، ليمضي إلى النهاية المقصودة أصلا في هذا المقام; ردا على التحدي والاستعجال.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا: هذا عارض ممطرنا. بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. كذلك نجزي القوم المجرمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتقول الروايات: إنه أصاب القوم حر شديد، واحتبس عنهم المطر، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف. ثم ساق الله إليهم سحابة، ففرحوا بها فرحا شديدا، وخرجوا يستقبلونها في الأودية، وهم يحسبون فيها الماء: قالوا هذا عارض ممطرنا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وجاءهم الرد بلسان الواقع: بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها .. وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى. كما جاء في صفتها: ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم .

                                                                                                                                                                                                                                      والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير: تدمر كل شيء بأمر ربها وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس. فهذا الوجود حي. وكل قوة من قواه واعية. وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه. والإنسان أحد هذه القوى. وحين يؤمن حق الإيمان، ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة، يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله، وأن يتجاوب معها، وأن تتجاوب معه، تجاوب الأحياء المدركة، بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك. ففي كل شيء روح وحياة، ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق. والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار، تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أدت الريح ما أمرت به، فدمرت كل شيء فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم .. أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى. إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة، لا ديار فيها ولا نافخ نار.. كذلك نجزي القوم المجرمين .. سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين، يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوب:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه. وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة. فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. إذ كانوا يجحدون بآيات الله. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..

                                                                                                                                                                                                                                      هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير. مكناهم فيما لم نمكنكم فيه.. إجمالا.. من القوة والمال والعلم والمتاع. وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة - والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل. وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره - ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء. إذ إنهم عطلوها وحجبوها إذ كانوا يجحدون بآيات الله .. والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب، ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .. من العذاب والبلاء..

                                                                                                                                                                                                                                      والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب، ألا يغتر ذو قوة بقوته، ولا ذو مال بماله، ولا ذو علم بعلمه. فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع، فتدمر كل شيء، وتتركهملا يرى إلا مساكنهم حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3268 ] والريح قوة دائبة العمل، وفق النظام الكوني الذي قدره الله، وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني، تعمل وفق الناموس المرسوم. فلا حاجة لخرق النواميس الكونية - كما يعترض المعترضون واهمين - فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم. وكل حادث وكل حركة، وكل اتجاه، وكل شخص، وكل شيء، محسوب حسابه، داخل في تصميم الناموس.

                                                                                                                                                                                                                                      والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها، ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله. ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها. المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها. وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود. ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد. وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام. وكل شيء مقدر تقديرا لا يناله نقص ولا اضطراب.

                                                                                                                                                                                                                                      ويختم هذا الشوط بالعبرة الكلية لمصارع من حولهم من القرى من عاد وغير عاد:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى، وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون. فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة! بل ضلوا عنهم. وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة. كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة. وثمود بالحجر في شمالها. وسبأ وكانوا باليمن. ومدين وكانت في طريقهم إلى الشام. وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف إلى الشمال.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نوع الله في آياته لعل المكذبين يرجعون إلى ربهم ويثوبون. ولكنهم مضوا في ضلالتهم، فأخذهم العذاب الأليم، ألوانا وأنواعا، تتحدث بها الأجيال من بعدهم، ويعرفها الخلف من ورائهم. وكان مشركو مكة يتسامعون بها، ويرون آثارها غادين رائحين.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يلفتهم إلى الحقيقة الواقعة. فقد دمر الله على المشركين قبلهم وأهلكهم دون أن تنجيهم آلهتهم التي كانوا يتخذونها من دون الله، زاعمين أنهم يتقربون بها إليه. سبحانه. وهي تستنزل غضبه ونقمته: فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة .

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم لم ينصروهم بل ضلوا عنهم .. وتركوهم وحدهم لا يعرفون طريقا إليهم أصلا، فضلا على أن يأخذوا بيدهم وينجدوهم من بأس الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو إفك. وهو افتراء. وذلك مآله. وتلك حقيقته.. الهلاك والتدمير.. فماذا ينتظر المشركون الذين يتخذون من دون الله آلهة بدعوى أنها تقربهم من الله زلفى؟ وهذه هي العاقبة وهذا هو المصير؟

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية