الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين

                                                                                                                                                                                                                                      قال الملأ الذين استكبروا من قومه استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظ من شعيب عليه السلام ؟ فقيل : قال أشراف قومه المستكبرون ، متطاولين عليه عليه السلام ، غير مكتفين بمجرد الاستعصاء عليه ، والامتناع من الطاعة له ، بل بالغين من العتو والاستكبار إلى أن قصدوا استتباعه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعه المؤمنين ، واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفي ، وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيد القسمي .

                                                                                                                                                                                                                                      لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا بنسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا ، بعطفهم عليه تنبيها على أصالته عليه السلام في الإخراج ، وتبعيتهم له فيه ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : معك فإنه متعلق بالإخراج لا بالإيمان ، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان ; أي : والله لنخرجنك وأتباعك .

                                                                                                                                                                                                                                      من قريتنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : أو لتعودن في ملتنا عطف على جواب القسم ; أي : والله ليكونن أحد الأمرين البتة ، على أن المقصد الأصلي هو العود ، وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء ، كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام لجواب الإخراج ، كأنهم قالوا : لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخلوا في ملتنا ، وإدخالهم له عليه السلام في خطاب العود مع استحالة كونه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك ، إنما هو بطريق تغليب الجماعة على الواحد ، وإنما لم يقولوا : أو لنعيدنكم ، على طريقة ما قبله ، لما أن مرادهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعية ، حذار الإخراج باختيار أهون الشرين ، لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال استئناف كما سبق ; أي : قال عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة ، وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة .

                                                                                                                                                                                                                                      أولو كنا كارهين على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، لا لإنكار الواقع واستقباحه ، كالتي في قوله تعالى : أولو جئتك بشيء مبين ، ويجوز أن يكون الاستفهام فيه باقيا على حاله ، وقد مر مرارا أن كلمة " لو " في مثل هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه ، فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ، تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية ، إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية ، بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق [ ص: 249 ] بالذات ، أو بالواسطة من الحكم الموجب ، أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال ، بإدخالها على أبعدها منه ، وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته ، أو انتفائه معه ثبوته ، أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية ، لما أن الشيء متى تحقق مع المنافي القوي ، فلأن يتحقق مع غيره أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ، ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها ، الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها ، وهذا معنى قولهم : إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال ، وهذا المعنى ظاهر في الخبر الموجب والمنفي ، والأمر والنهي ، كما في قولك : فلان جواد يعطي ولو كان فقيرا ، أو بخيل لا يعطي ولو كان غنيا ، وكقولك : أحسن إليه ولو أساء إليك ، ولا تهنه ولو أهانك ، لبقائه على حاله سالما عما يغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما فيما نحن فيه ، ففيه نوع خفاء لتغيره بورود الإنكار عليه ، لكن الأصل في الكل واحد ، إلا أن كلمة " لو " في الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها ، وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله ، وأن الجملة حال من ضميره ، أو مما يتعلق به ، وأن ما في حيز " لو " مقرر على ما هو عليه من الاستبعاد ، بخلاف ما نحن فيه ، لما أن كلمة " لو " متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور ، وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو مدلوله لا مدلول المذكور ، وأن الجملة حال من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأن المقصود الأصلي إنكار مدلوله من حيث مقارنته للحالة المذكورة ، وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة ، وأن ما في حيز " لو " لا يقصد استبعاده في نفسه ، بل يقصد الإشعار بأنه أمر مقرر ، إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد مبالغة في الإنكار من جهة أن العود مما ينكر عند كون الكراهة أمرا مستبعدا ، فكيف به عند كونها أمرا محققا ومعاملة مع المخاطبين على معتقدهم لاستنزالهم من رتبة العناد ، وليس المراد بالكراهة مجرد كراهة المؤمنين للعود في ملة الكفر ابتداء ، حتى يقال : إنها معلومة لهم ، فكيف تكون مستبعدة عندهم ، بل إنما هي كراهتهم له بعد وعيد الإخراج ، الذي جعل قرينا للقتل في قوله تعالى : ولو أنا كتبنا ... الآية ، فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج ; إذ رب مكروه يختار عند حلول ما هو أشد منه وأفظع .

                                                                                                                                                                                                                                      والتقدير : أنعود فيها لو لم نكن كارهين ، ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه ; فالجملة في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدر حسبما أشير إليه ، إذ مآله أنعود فيها حال عدم الكراهة ، وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة كانت ، غير أنه اكتفي بذكر الحالة الثانية التي هي أشد الأحوال ، منافاة للعود وأكثرها بعدا منه ، تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر ، وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا ; لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم ; فلأن يتحقق مع عدمها أولى ، إن قلت : النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري فيما نحن فيه بمنزلة صريح النفي .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ريب في أن الأولوية هناك معتبرة بالنسبة إلى النفي ، ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوت عنها ، أعني : عدم الغنى ، هو عدم الإعطاء لا نفسه ، فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند عدم الكراهة عدم العود لا نفسه ، إذ هو الذي يدل عليه قولنا : أنعود ; لأنه في معنى : لا نعود ، فلم اختلف الحال بينهما ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : لما أن مناط الأولوية هو الحكم [ ص: 250 ] الذي أريد بيان تحققه على كل حال ، وذلك في مثال النفي عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفي المذكور ، وأما فيما نحن فيه فهو نفس العود المستفاد من الفعل المقدر ; إذ هو الذي يقتضيه الكلام السابق ، أعني : قولهم : لتعودن

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستفهام فخارج عنه ، وارد عليه لإبطال ما يفيده ونفي ما يقتضيه ، لا أنه من تمامه كما في صورة النفي ، وتوضيحه أن بين النفيين فرقا معنويا تختلف به أحكامهما ، التي من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه ، وفي الآخر بالنسبة إلى متعلقه ; ولذلك لا تستقيم إقامة أحدهما مقام الآخر على وجه الكلية ، ألا يرى أنك لو قلت مكان أنعود فيها ... إلخ : لا نعود فيها ولو كنا كارهين ، لاختل المعنى اختلالا فاحشا ; لأن مدلول الأول نفي العود المقيد بحال الكراهة ، ومدلول الثاني تقييد العود المنفي بها ، وذلك لأن حرف النفي يباشر نفس الفعل وينفيه ، وما يذكر بعده يرجع إليه من حيث هو منفي ، وأما همزة الاستفهام فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده ، لما أن دلالتها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعية كدلالة حرف النفي ، حتى يتعلق معناها بنفس الفعل الذي يليها ، ويكون ما بعده راجعا إليه من حيث هو منفي ، بل هي دلالة عقلية مستفادة من سياق الكلام ، فلا بد أن يكون ما يذكر بعد الفعل من موانعه ودواعي إنكاره ونفيه حتما ، ليكون قرينة صارفة للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكار والنفي ، ثم لما كان المقصود نفي الحكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر بعض منها مغن عن ذكر ما عداها لاستلزام تحققه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية ، وكانت حال الكراهة عند كونها قيدا لنفس العود كذلك ; أي : مغنيا عن ذكر سائر الأحوال ، ضرورة أن تحقق العود في حال الكراهة مستلزم لتحققه في حال عدمها البتة ، وعند كونها قيدا لنفيه بخلاف ذلك ; أي : غير مغن عن ذكر غيرها ، ضرورة أن نفي العود في حال الكراهة لا يستلزم نفيه في غيرها ، بل الأمر بالعكس ; فإن نفيه في حال الإرادة مستلزم لنفيه في حال الكراهة قطعا ، استقام الأول لإفادته نفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ما ذكر ما هو مغن عن ذكر الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يستقم الثاني لعدم إفادته إياه على الوجه المذكور ، إن قيل : فما وجه استقامتهما جميعا عند ذكر المعطوفين معا ، حيث يصح أن يقال : لا نعود فيها لو لم نكن كارهين ، كما يصح أن يقال : أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين ، مع أن المقدر في حكم الملفوظ ; قلنا : وجهها أن كلا منهما يفيد معنى صحيحا في نفسه ، لا أن معنى أحدهما عين معنى الآخر ، أو متلازمان متفقان في جميع الأحكام ، كيف لا ومدلول الأول أن العود منتف في الحالتين ، ومدلول الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين منتف ، وكلا المعنيين صحيح في نفسه مصحح لنفي العود في الحالتين مع ذكرهما معا ، غير أن الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول ، فإنه مصحح لنفيه فيهما مع الاقتصار على ذكر حالة الإرادة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية