الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ إفادة خبر الواحد العلم ] إذا ثبت أنه يجب العمل به ، فهل يفيد العلم ؟ اختلفوا فيه ، فذهب أهل الظاهر إلى أنه يفيده . وحكاه ابن حزم في كتاب الإحكام " عن داود والحسين بن علي الكرابيسي ، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم . قال : وبه نقول . قال : وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس . ا هـ . [ ص: 135 ] وفيما حكاه عن الحارث نظر ، فإني رأيت كلامه في كتاب فهم السنن " ، نقل عن أكثر أهل الحديث ، وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم ، ثم قال : وقال أقلهم : يفيد العلم ، ولم يختر شيئا ، واحتج بإمكان السهو والغلط من ناقله كالشاهدين يجب العمل بقولهما لا العلم ، ونقله ابن عبد البر عن الكرابيسي ونقله الباجي عن أحمد ، وابن خويز منداد . وقال المازري : ذهب ابن خويز منداد إلى أنه يفيد العلم ، ونسبه إلى مالك وأنه نص عليه ، وأطال في تقريره ، وحاصله أنه يوجب العلم الضروري . لكن تتفاوت مراتبه ، ونازعه المازري ، وقال : لم يعثر لمالك على نص فيه ، ولعله رأى مقالة تشير إليه ، ولكنها متأولة . قال : وقيل : إنه يوجب العلم الظاهر دون الباطن ، وكأنهم أرادوا أنه يثمر الظن القوي . وحكى أبو الحسن السهيلي من أصحابنا في كتاب أدب الجدل له قولا غريبا أنه يوجب العلم بشرط أن يكون في إسناده إمام مثل مالك ، وأحمد وسفيان ، وإلا فلا يوجبه . وعن بعض المحدثين يوجبه مطلقا . ونقل الشيخ في التبصرة " عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه ، ويحتمل أن يكون هو القول الذي حكاه السهيلي ، وقال الماوردي والروياني : لا يوجب العلم الباطن قطعا بخلاف المستفيض والمتواتر ، وهل يوجب الظاهر ؟ فيه وجهان أحدهما : المنع ; لأن ظاهر العلم من نتائج باطنه فلم يفترقا . [ ص: 136 ] والثاني : يوجبه ; لأن سكون النفس إليه موجب له ، ولولاها كان ظنا . ا هـ .

                                                      وحكى صاحب المصادر " عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر وكأن مراده غالب الظن ، وإلا فالعلم لا يتفاوت وبذلك صرح ابن فورك في كتابه ، فقال : قائل هذا أراد غلبة الظن ; لأنه يستحيل أن يكون في العلم ظاهر لا يتحقق به معلوم . وجزم به أبو بكر الصيرفي فقال : خبر الواحد يوجب العمل دون العلم . وقال : يعني بالعلم علم الحقيقة لا علم الظاهر . ونقله عن جمهور العلماء منهم الشافعي . قال : والقائل بأن خبر الواحد يفيد العلم ، إن أراد العلم الظاهر فقد أصاب ، وإن أراد القطع حتى يتساوى مع التواتر فباطل ، ونحوه قول ابن كج في كتابه : إنا نقطع على الله بصحة القول بخبر الواحد ، وينزل منزلة النص ، ألا ترى أنا ننقض حكم من ترك أخبار الآحاد .

                                                      وحكى عبد الوهاب في الملخص " أنه هل يفيد العلم الظاهر أم لا ؟ ثم قال : إنه خلاف لفظي ; لأن مرادهم أنه يوجب غلبة الظن ، فصار الخلاف في أنه هل يسمى علما أم لا ؟ وقال الهندي : إن أرادوا بقولهم : يفيد العلم ، أنه يفيد العلم بوجوب العمل ، أو أنه يفيد العلم بمعنى الظن ، فلا نزاع فيه ; لتساويهما ، وبه أشعر كلام بعضهم أو قالوا : يورث العلم الظاهر ، ومعلوم أن العلم ليس له ظاهر ، فالمراد منه الظن ، وإن أرادوا منه أنه يفيد الجزم صدق مدلوله ، سواء كان على وجه الاطراد ، كما نقل بعضهم عن الإمام أحمد وبعض الظاهرية ، أو لا على وجه الاطراد ، بل في بعض أخبار الآحاد دون الكل كما نقل عن بعضهم ، فهو باطل . ا هـ . ولعل مراد أحمد إن صح عنه إفادة الخبر ; للعلم بمجرده ما إذا تعددت [ ص: 137 ] طرقه ، وسلمت عن الطعن فإن مجموعها يفيد ذلك .

                                                      ولهذا قال يحيى بن معين : لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه . وحكى القاضي أبو يعلى قول أحمد في أحاديث الرؤية : نؤمن بها ، ونعلم أنها حق يقطع على العلم بها . قال : فذهب إلى ظاهر هذا الكلام طائفة من أصحابنا ، وقالوا : خبر الواحد إن كان شرعيا أوجب العلم . قال : وعندي هو محمول على أنه يوجب العلم من طريق الاستدلال ، لا من جهة الضرورة ، وأن القطع حصل استدلالا بأمور انضمت إليه من تلقي الأمة لها بالقبول ، أو دعوى المخبر على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه منه بحضرته ، فيسكت ولا ينكر عليه ، أو دعواه على جماعة حاضرين السماع منه ، فما ينكرونه . وقال ابن دقيق العيد : قد أكثر الأصوليون من حكاية إفادته القطع عن الظاهرية ، أو بعضهم ، وتعجب الفقهاء وغيرهم منهم ; لأنا نراجع أنفسنا فنجد خبر الواحد محتملا للكذب والغلط ، ولا قطع مع هذا الاحتمال ، لكن مذهبهم له مستند لم يتعرض له الأكثرون ، وهو أن يقال ما صح من الأخبار فهو مقطوع بصحته ، لا من جهة كونه خبر واحد ، فإنه من حيث هو كذلك محتمل ; لما ذكرتموه من الكذب والغلط .

                                                      وإنما وجب أن يقطع بصحته ; لأمر خارج عن هذه الجهة ، وهو أن الشريعة محفوظة ، والمحفوظ ما لا يدخل فيه ما ليس منه ، ولا يخرج عنه ما هو منه ، فلو كان ما ثبت عندنا من الأخبار كذبا لدخل في الشريعة ما ليس منها ، والحفظ ينفيه ، والعلم بصدقه من هذه الجهة ، لا من جهة ذاته ، فصار هذا كالإجماع فإن قول الأمة من حيث هو وحكمهم لا يقتضي العصمة ، لكن لما قام الدليل على ذلك وجب القول به من هذا الوجه ، لا من حيث كونه قولا لهم وحكما ، وأخذوا الحفظ من وجه آخر قرروه يقع فيه البحث معهم . قال : وإنما ذكرنا هذا ; لأن كثيرا من الفقهاء والأصوليين يعتقدون أن [ ص: 138 ] مذهبهم خارج عن ضروب العقل ، فبينا هذا دفعا لهذا الوهم ، وتنبيها لما ينبغي أن ينظر ، ويبحث معهم فيه ، وهو المحل الذي ادعوه من قيام القاطع على ما ذكروه ، وأقرب ما يقال لهم فيه : إن هذا القاطع ، أعني العلم بصحة كل ما صح عندنا وبكذب كل ما لم يصح ، إما أن يؤخذ بالنسبة إلى جميع الأمة أو إلى بعضها ، فإن أخذ بالنسبة إلى الجميع فمسلم ، ولكنه لا يفيد بالنسبة إلى كل فرد هنا إلا إذا أثبتنا العزم بالنسبة إلى كل الأمة ، لكن ذلك متعذر .

                                                      وإن أخذنا بالنسبة إلى البعض لم يفد ; لجواز أن يكون بعض الأمة قد وصل إليه ذلك المقتضي للحكم ، وقد وقع كثير من هذا ، وهو اطلاع بعض المجتهدين على حديث لم يطلع عليه غيره ، وإن قال : إذا لم أطلع عليه ، فالأصل عدم اطلاع غيري عليه ، فيحصل المقصود بالنسبة إلي . قلنا : أنت تدعي القطع ، والتمسك بالأصل لا يفيد إلا الظن .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية