الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب أسرار الطهارة .

وهو الكتاب الثالث من ربع العبادات .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وألطافه وأعد لظواهرهم تطهيرا لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة وصلى الله على النبي محمد المستغرق بنور الهدى أطراف العالم وأكنافه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة تنجينا بركاتها يوم المخافة وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة .

أما بعد .

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بني : الدين على النظافة وقال صلى الله عليه وسلم : مفتاح الصلاة الطهور وقال الله تعالى: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الطهور نصف الإيمان وقال الله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فتفطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم الطهور نصف الإيمان عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحونا بالأخباث والأقذار هيهات هيهات .

التالي السابق


(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله) في تعقيب التسمية بالتحميد اقتداء بأسلوب الكتاب المجيد وعملا بما شاع، بل وقع عليه الإجماع وامتثال بحديثي الابتداء والكلام على الجملتين طويل الذيل، قد ألفت فيها رسائل ووسائل ليس هذا محل ذكره (الذي تلطف بعباده) أي ترفق بهم، وهو من لطف الشيء كقرب لطافة، وأصل اللطف الرفق (فتعبدهم بالنظافة) أي جعلهم ينقادون ويخضعون له بالنظافة، يقال: هذا أمر تعبدي، وهو من العبادة وهي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه، ويقال: تعبد الرجل إذا تنسك، وتعبده دعاه إلى الطاعة، والنظافة النقاء من الوسخ والدنس، وقد نظف ككرم فهو نظيف، ويتعدى بالتضعيف، والمعنى أن دعاء الله لعباده وأمره لهم بانقيادهم له بالإنقاذ من سائر الأوساخ والأدران من غاية رفق الله تعالى بهم وكمال لطفه وإحسانه بهم، والنظافة كما تتكون بتنقية الظاهر كذلك تطلق على تنقية الباطن، وكل منهما مراد هنا (وأفاض) أي أجرى وأسال من الفيض، وهو سيلان الماء، وبه سمي نهر مصر بالفيض، وفاض كل سائل جرى، وفاض الخير كثر، وفاض وأفاض يستعملان لازمين، ولكن هنا متعد (على قلوبهم) أي قلب أولئك العباد الذين اختارهم من الأزل وتعبدهم بالطهارة والنظافة في كل عمل (تزكية) أي صلاحا أو تنمية (لسرائرهم) جمع سريرة، وهي خاطر النفس وما تسره أي تكتمه (أنواره وألطافه) المراد بالأنوار هنا هي الواردات الإلهية التي تطرد الكون عن القلب، والألطاف جمع اللطف، والمراد به الرفق ويعبر عنه بما يقع عنده صلاح العبد آخرة، أي إنما أفاض تلك الأنوار الزكية والألطاف [ ص: 303 ] الخفية على قلوبهم لتصفو أسرارهم، وتنمو سرائرهم، ويكمل لهم التطهير المعنوي بمحض فضله تعالى وإفاضته، ولا يكون الفيض والإفاضة إلا من الحق (وأعد) أي هيأ (لظواهرهم) هو مقابل سرائرهم جمع الظاهر هو ما يظهر للعين من الإنسان من جوارحه الظاهرة (تطهيرا لها) أي لأجل تطهيرها من الأدوات والأوساخ (الماء المخصوص بالرقة واللطافة) والرقة كالدقة لكن الدقة تقال اعتبارا بمراعاة جوانب الشيء، والرقة اعتبارا بعمقه، فمتى كانت في جسم يضادها الصفاقة، ويقال: ماء رقيق إذا كان جاريا سيالا، واللطافة ضد الكثافة، والماء قد خص بهذين الوصفين، وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق، وهو جسم رقيق لطيف شفاف يبرد غلة العطش، به حياة كل نام (والصلاة) هكذا في سائر نسخ الكتاب لاقتصار عليه دون السلام، والكلام فيه تقدم في أول كتاب العلم، ويوجد في بعض النسخ والصلاة والسلام (على محمد المستغرق) أي المستوعب (بنور الهدى) أي بنور هدايته وإرشاده (أطراف العالم وأكنافه) الأطراف والأكناف جمع طرف وكنف بالتحريك فيها أي الجوانب، والعالم كل ما سوى الله من الموجودات أي نور إرشاده وهدايته استوعب أطراف العالم، فلم يبق شيئا إلا وحصله وفيه إشارة إلى عموم تبليغه صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين، ويحتمل أنه أشار به إلى سائر العوالم الحسية والمعنوية فكلهم يستمدون من أنواره (وعلى آله الطيبين الطاهرين) هم أقاربه الأولون، والطيب راجع إلى ذواتهم، والطهارة إلى صفاتهم أي الطيبين الذوات الطاهرين الصفات، ولم يذكر الأصحاب هنا اكتفاء بالآل لأن في آله من له صحبة، وفي أصحابه من له قرابة (صلاة تحمينا) من الحماية أي تحرسنا وتحفظنا (بركتها يوم المخافة) هو يوم القيامة سمي لما فيه من الخوف الشديد، والمعنى تحمينا بركة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من أهوال يوم القيامة، وقد وردت أخبار صحاح وحسان في أن المصلي عليه ينجو من أهوال يوم القيامة (وتنتصب جنة) بالضم أي سترا (بيننا وبين كل آفة) أي كل مصيبة وشدة، وقد ظهر لك مما سلف أن المصنف ضمن خطبته الإشارة إلى بعض مقاصد الكتاب من تعبد ونظافة وإفاضة وإعداد والظواهر والماء بوصفيه والأطراف والطاهرين، ونصب الجنة التي يستعملها المستنجي رعاية لبراعة الاستهلال، وعند التأمل يظهر في كلامه من لطائف الأسرار غير ما ذكرت (أما بعد فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بني الدين على النظافة) تقدم الكلام عليه في كتاب العلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: مفتاح الصلاة الطهور) وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم. قال العراقي: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث علي. قال الترمذي: هذا أصح شيء في الباب وأحسن. . قلت: وكذلك رواه أحمد في مسنده، وأخرج أحمد أيضا والبيهقي من حديث جابر بلفظ: مفتاح الجنة الصلاة ومفتاح الصلاة الطهور. وقال النووي في التهذيب: الطهور بالفتح ما يتطهر به وبالضم اسم الفعل، هذه هي اللغة المشهورة، وفي أخرى بالفتح فيهما، واقتصر عليه جماعات من كبار أئمة اللغة، وحكى صاحب مطالع الأنوار الضم فيهما، وهو غريب شاذ. .

وقال ابن الأثير في تفسير قوله عليه السلام: لا يقبل الله صلاة بغير طهور هو بالضم للتطهر وبالفتح الماء الذي يتطهر به، وقال سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معا. قال: فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وبضمها، والمراد بهما التطهر، والماء الطهور بالفتح هو الذي يرفع الحدث ويزيل النجس; لأن فعولا من أبنية المبالغة، فكأنه تناهى في الطهارة .

(وقال الله تعالى) في كتابه العزيز في حق أهل قباء: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين كان هؤلاء الطائفة من الأنصار إذا استنجوا أتبعوا الحجارة بالماء فأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وسيأتي الكلام عليه قريبا، وطهر وطهر واطهر وتطهر بمعنى واحد .

(وقال صلى الله عليه وسلم: الطهور نصف الإيمان) قال العراقي: أخرجه الترمذي من حديث رجل من بني سليم، وقال: حسن، ورواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري بلفظ: شطر. . قلت: وحديث أبي مالك الأشعري رواه أيضا أحمد والترمذي ولفظهم: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن [ ص: 304 ] أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. وأخرج اللالكائي في السنة، أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم، أخبرنا إسماعيل بن محمد، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن حجر بن عدي، ورأى ابن أخ له خرج من الخلاء فقال: ناولني تلك الصحيفة من الكوة فقرأها، فقال: حدثنا علي بن أبي طالب: الطهور نصف الإيمان، قلت: هكذا أورده ولم يصرح برفعه وإنما أورده مستدلا على قبول الإيمان الزيادة والنقص والتبعيض .

(وقال الله تعالى) في كتابه العزيز: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم قال صاحب القاموس في كتاب البصائر: الطهارة ضربان: جسمانية ونفسانية، وحمل عليهما أكثر الآيات. ، والحرج الكلفة والمشقة، ويحتمل قوله تعالى: ليطهركم أي ليهديكم، كما في قوله تعالى: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم أي أن يهديهم، ومن الآيات التي فيها تطهير النفس، قوله تعالى: أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود .

قال الزجاج: معناه طهراه من تعليق الأصنام عليه، وقال غيره: المراد به الحث على تطهير القلب لدخول السكينة فيه المذكورة في قوله: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين . وقال الأزهري: طهرا بيتي من المعاصي والأفعال المحرمة .

وقوله تعالى: يتلو صحفا مطهرة أي من الأدناس والباطل، وقوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين يعني به تطهر النفس، وقوله تعالى: ومطهرك من الذين كفروا أي منزهك أن تفعل بفعلهم، وقيل: في قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون يعني به تطهير النفس أي لا يبلغ حقائق معرفته إلا من طهر نفسه من درن الفساد والجهالات والمخالفات (فتفطن ذوو البصائر) أي تنبه ذوو المعارف والقلوب المنورة بنور اليقين (بهذه الظواهر) من الآيات والأخبار (أن أهم الأمور) هو (تطهير السرائر) أي البواطن من درن المخالفات ورين الشهوات (إذ يبعد) كل البعد (أن يكون) المعنى (المراد بقوله) صلى الله عليه وسلم وفي نسخة من قوله: (الطهور نصف الإيمان) من حديث علي أو شطر الإيمان، كما هو في رواية مسلم هو (عمارة الظاهر) من جسد الإنسان (بالتنظيف) والإنقاء (بإفاضة الماء) الكثير وصبه (وتخريب الباطن) أي تركه خرابا بلا عمارة (وإبقاؤه مشحونا) مملوءا (بالأخباث والأقذار) الأخباث جمع خبث محركة النجس، والأقذار جمع قذر محركة الوسخ، وقد تطلق الأقذار والأخباث بمعنى (هيهات هيهات) كلمة بعد وفيه لغات استوفيتها في شرح القاموس أي بعدا لذلك كيف يكون كذلك .




الخدمات العلمية