الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : بعموم أنه لم يذكر اسم الله عليه ، وبزيادة ذكر غير الله عليه الذي يقتضي تحريمه هذا اللفظ عموما ومعناه تنبيها من طريق الأولى ، ويقتضي تحريمه نصا قوله : { وما أهل لغير الله به } ، فقد توارد على تحريم ذلك النص والعموم والتنبيه من طريق الأولى بالتحريم لظاهر أدلة الشرع عليه أولا .

                                                                                                                                                                                                              وهذا من بديع الاستنباط في موارد الأدلة المماثلة في اقتضاء الحكم الواحد عليه ، وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عليه عمدا من الذبائح أم لا ؟ مسألة مشكلة جدا قد مهدنا القول فيها في تخليص الطريقتين ، ولكننا نشير فيها هاهنا إلى نكتة تتعلق بالمقصود ; فنقول :

                                                                                                                                                                                                              اختلف العلماء في متروك التسمية على ستة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : إن تركها سهوا أكلت . وإن تركها عمدا لم تؤكل قاله في الكتاب مالك وابن القاسم وأبو حنيفة ، وعيسى ، وأصبغ .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : إن تركها عامدا أو ناسيا تؤكل ; قاله الحسن ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه إن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها ; قاله ابن سيرين ، وأحمد .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : إن تركها متعمدا كره أكلها ولم تحرم ; قاله القاضي أبو الحسن ، والشيخ أبو بكر من أصحابنا ، وهو ظاهر قول الشافعي . [ ص: 272 ]

                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال أحمد بن حنبل : التسمية شرط في إرسال الكلب دون السهم في إحدى روايتيه .

                                                                                                                                                                                                              السادس : قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه : يجب أن تعلق هذه الأحكام بالقرآن والسنة والدلائل المعنوية التي أسستها الشريعة .

                                                                                                                                                                                                              فأما القرآن فقد قال تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } . { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } فبين الحالين وأوضح الحكمين .

                                                                                                                                                                                                              وقوله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } نهي محمول على التحريم ، ولا يجوز حمله على الكراهة ; لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض ، ولا يجوز أن يتبعض . وهذا من نفيس علم الأصول .

                                                                                                                                                                                                              وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم في الصحاح : { ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل } . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : { إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه فكل } . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : { وإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فلا تأكل ; فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر } . [ ص: 273 ]

                                                                                                                                                                                                              وهذه أدلة ظاهرة غالبة عالية ، وذلك من أظهر الأدلة . وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين يقول في معارضة هذا : [ وذكر الله ] إنما شرع في القرب ، والذبح ليس بقربة .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا فاسد من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                              أحدها : أنه يعارضه القرآن والسنة ، كما قلنا .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن ذكر الله مشروع في كل حركة وسكنة ، حتى في خطبة النكاح ، وإنما تختلف درجاته : بالوجوب والاستحباب .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية عندنا وعندك ، وقد قال الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : المراد بذكر اسم الله بالقلب ; لأن الذكر يضاد النسيان ، ومحل النسيان القلب ، فمحل الذكر القلب .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى البراء بن عازب وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : { اسم الله على قلب كل مؤمن يسمي أو لم يسم } ، ولهذا تجزئه الذبيحة إذا نسي التسمية تعويلا على ما في قلبه من اسم الله سبحانه . [ ص: 274 ]

                                                                                                                                                                                                              قلنا : الذكر يكون باللسان ، ويكون بالقلب ، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان ، فنسخ الله ذلك بذكر الله في الألسنة ، واستمر ذلك في الشريعة ، حتى قيل لمالك : هل يسمي الله إذا توضأ ؟ فقال : أيريد أن يذبح ؟ إشارة إلى أن موضع التسمية وموضوعها إنما هو في الذبائح لا في الطهارة .

                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث الذي تعلقوا به في قوله : { اسم الله على قلب كل مؤمن } فحديث ضعيف لا تلتفتوا إليه . وأما الناسي للتسمية على الذبيحة فإنها لم تحرم عليه ; لأن الله تعالى قال : { وإنه لفسق } وليس الناسي فاسقا بإجماع ، فلا تحرم عليه .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : وكذلك المتعمد ليس بفاسق إن أكلها إجماعا ; لأنها مسألة اجتهاد اختلف العلماء فيها .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : قد أجبنا عن هذه النكتة في مسائل الخلاف ، وصرحنا فيه بالحق من وجوه ; أظهرها أن تارك التسمية عمدا لا يخلو من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                                                                                              أحدها : أن يترك التسمية إذا أضجع الذبيحة ; لأنه يقول : قلبي مملوء من أسماء الله وتوحيده ، فلا أفتقر إلى ذكر ذلك بلساني : فذلك يجزيه ; لأنه قد ذكر الله وعظمه .

                                                                                                                                                                                                              وإن قال : ليس هذا موضع التسمية صريحة ، فإنها ليست بقربة ، فهذا يجزيه لكونه على مذهب يصح اعتقاده اجتهادا للمجتهد فيه وتقليدا لمن قلده .

                                                                                                                                                                                                              وإن قال : لا أسمي ، وأي قدر للتسمية ؟ فهذا متهاون كافر فاسق لا تؤكل ذبيحته ، فإنما يتصور الخلاف في المسألة على الصورتين الأوليين ، فأما على الصورة الثالثة فلا تشخيص لها .

                                                                                                                                                                                                              والذي نعتمد عليه في صورة الناسي أن الخطاب لا يتوجه إليه ، لاستحالة خطاب الناسي ; فالشرط ليس بواجب عليه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية