الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) .

                          أمر الله تعالى رسوله في الآيات السابقة أن يبين لعباده إحاطة علمه وشمول قدرته ، واستعلاءه عليهم بالقهر ، وحفظه أعمالهم عليهم ، وكونه هو مولاهم الحق الذي يحاسبهم ويجازيهم عليها بعد أن يميتهم ثم يبعثهم . ثم أمره بهذا القول أن يذكرهم بشيء يجدونه في أنفسهم ويقولونه بأفواههم ، ويغفلون عما يستلزمه من كون الله تعالى هو مولاهم الحق الذي يجب توحيده وإفراده بالعبادة ، ولا سيما مظهرها الأعلى وهو الدعاء في الرخاء كالدعاء في الشدة ، فقال :

                          ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ) ظلمات البر والبحر قسمان : ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر ، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالطرق والمسالك ، وظلمة فقد الصوى والمنار ، أو اشتباه الأعلام والآثار ، وظلمة الشدائد والأخطار ، كالعواطف والأعاصير وهياج البحار ، أو مساورة الأفاعي والسباع ، أو مكافحة العدد الكثير من الأعداء ، وتسمية هذه الأمور المعنوية ظلمات من المجاز كتسمية الجهل والكفر والضلال بذلك - وهو كثير في التنزيل - ونقلوا أنه قيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب . وأقول : لا يصح إطلاق الظلمة على كل شدة ، بل على الشدة التي لها عاقبة سيئة مجهولة تخشى ولا تعلم ، فهو يرجع إلى معنى الجهل . والتضرع : المبالغة في الضراعة وهي الذل والخضوع ، وقال الراغب : هو إظهار الضراعة بعد أن فسرها بالضعف والذل ، والإظهار قد يكون إظهار ما هو واقع وقد يكون إظهار ما هو غير واقع على سبيل الرياء ، والمراد بالتضرع هنا ما هو صادر عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري المطوي في أنفس البشر . والخفية - بالضم والكسر - الخفاء والاستتار ، فإذا كان التضرع إظهار الحاجة إلى الله تعالى ، والتذلل له بالجهر والدعاء ، ورفع الصوت به مع البكاء - فالخفية في الدعاء عبارة عن [ ص: 407 ] إسراره هربا من الرياء ، وهاتان حالتان تعرضان للإنسان عند شعوره بالحاجة إلى الله تعالى ويأسه من الأسباب ؛ تارة يجأر بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا ، وتارة يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا ، ويتحرى ألا تسمعه أذن ، ولا يعلم به أحد ، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول ، وأرجى لنيل السؤل ، والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وما أودع من آيات التوحيد في أعمال فطرتهم : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر الحسية والمعنوية عندما تغشاكم في أسفاركم حال كونكم تدعونه عند وقوعكم في كل ظلمة منها دعاء تضرع ودعاء خفية قائلين : ( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) أي مقسمين هذا القسم في دعائكم : لئن أنجانا الله من هذه الظلمة أو الداهية المظلمة لنكونن من المتصفين بالشكر الدائم له ، المنتظمين في سلك أهله ، وفي قراءة ( لئن أنجيتنا ) بالخطاب وسيأتي .

                          ( قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) الكرب : الغم الشديد ، مأخوذ من كرب الأرض ، وهو إثارتها وقلبها بالحفر ، إذ الغم يثير النفس كذلك ، أو من الكرب ( بالتحريك ) وهو العقد الغليظ في رشاء الدلو ( حبله ) وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب ، أي لما يشعر به المغموم من الضغط على قلبه والضيق في صدره ، أو من أكربت الدلو إذا ملأته - أفاده الراغب . والمعنى أن الله ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم ، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك مخلفي وعدكم له بالشكر ، حانثين بما وكدتموه به من اليمين ، مواظبين على هذا الشرك مستمرين ، لا تكادون تنسونه إلا عند ظلمة الخطب ، وشدة الكرب . وأجلى شرككم أنكم تدعون أولياء من دون الله وتسندون إليهم الأعمال إن لم يكن بالاستقلال فبالشفاعة عند الله ، حتى إنكم لا تستثنون منها تلك النجاة ، وهذه الحجة من أبلغ الحجج لمن تأملها ، ولذلك تكرر في التنزيل ذكرها ، وطالما ذكرناها في آيات التوحيد ودلائله ، وأقرب بسط لها ما أوردناه في تفسير الآيتين ( 40 ) ، و ( 41 ) من هذه السورة ، وفيه شواهد بمعنى هاتين الآيتين .

                          قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( ينجيكم ) بالتشديد في الموضعين ؛ من التنجية ، والباقون بالتخفيف فيهما ؛ من الإنجاء وهما لغتان في تعدية نجا ينجو ، يقال : نجاه وأنجاه ، ونطق بهما القرآن في غير هاتين الآيتين أيضا ، ولكن في التشديد من المبالغة والدلالة على التكرار ما ليس في التخفيف ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ( خفية ) بكسر الخاء والباقون بضمها وهما لغتان كما تقدم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ( أنجانا ) على الغيبة ، فعاصم فخمها والآخرون قرءوها بالإمالة ، وقرأ الباقون ( أنجيتنا ) على الخطاب ، وهي مرسومة في المصحف الإمام هكذا ( أنجينا ) وقراءة الغيبة أقوى مناسبة للفظ ، والخطاب أشد تأثيرا في النفس .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية