الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثني يحيى بن معين ، ثنا الحجاج بن محمد ، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، أنه كان يقول في بكائه وذكر خطيئته : ويحي ، بأي شيء لم أعص ربي ، ويحي ، إنما عصيته بنعمته عندي ، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني ، واسوأتاه ، لم أستحيهم ولم أراقب ربي ، ويحي ، نسيت ما لم ينسوا مني ، ويحي ! غفلت ولم يغفلوا عني ، لم أستحيهم ولم أراقب ، واسوأتاه ! ويحي ! حفظوا ما ضيعت مني ، ويحي ! طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني ، ويحي ! طاوعتها فيما يضرها ويضرني . ويحها ! ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني ، أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني ، ويحها ! إني لأنصفها وما تنصفني ، أدعوها لأرشدها وتدعوني لتغويني ، ويحها ! إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني ، ويحها ! تريد اليوم أن تردني وغدا تخاصمني .

              رب لا تسلطها على ذلك مني ، رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني ، رب إني أعذرها ولا عذرتني ، إنه إن يك خيرا أخذلها وتخذلني ، وإن يك شرا أحبها وتحبني ، رب فعافني منها وعافها مني ، حتى لا أظلمها ولا تظلمني ، وأصلحني لها وأصلحها لي ، فلا أهلكها ولا تهلكني ، ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي .

              ويحي ! كيف أفر من الموت وقد وكل بي ، ويحي ! أنساه ولا ينساني ، ويحي ! إنه يقص أثري فإن فررت لقيني ، وإن أقمت أدركني . ويحي ! هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني ؟ وصبحني ، أو طرقني فبغتني ؟ .

              ويحي ! أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي ، ولا يتجافى جنبي ولا تدمع عيني ولا تسهر لي . ويحي ! كيف أنام على مثلها ليلي ، ويحي ! هل ينام على مثلها مثلي ، ويحي ! لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني ؟ بل ويلي ! [ ص: 256 ] إن لم يرحمني ربي .

              ويحي ! كيف لا توهن قوتي ولا تعطش هامتي ، بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كيف لا أنشط فيما يطفئها عني ؟ بل ويلي إن لم يرحمني ربي .

              ويحي ! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي ، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني ، بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كيف تنكأ قرحتي ما تكسب يدي ، ويح نفسي بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة ، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى ، فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي .

              ويحي ! لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال ، فويل لي إن لم يرحمني ربي ، ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني ، فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي ، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري ، فيسود به وجهي ، وتزرق به مع العمى عيني . بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي بأي شيء أستقبل ربي ؟ بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري . ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي ، فويل لي إن لم يرحمني ربي ، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني ؟ ويحك يا نفسي ما لك لا تنسين ما لا ينسى ؟ وقد أتيت ما لا يؤتى ، وكل ذلك عند ربك يحصى ، في كتاب لا يبيد ولا يبلى ، ويحك ! لا تخافين أن تجزي فيمن يجزى يوم تجزى كل نفس بما تسعى ، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى .

              يا نفس ويحك ! ألا تستفيقين مما أنت فيه ؟ إن سقمت تندمين ، وإن صححت تأثمين ، ما لك ؟ إن افتقرت تحزنين ، وإن استغنيت تفتنين . ما لك ؟ إن نشطت تزهدين ، فلم إن دعيت تكسلين ؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي ، فلم لا تنصبين فيما ترغبين .

              يا نفس ويحك لم تخالفين ؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين . ويحك ! لم تكرهين الموت ؟ لم لا تذعنين ، وتحبين الحياة ، لم لا تصنعين .

              يا نفس ويحك ! أترجين أن ترضي ولا تراضين ، وتجانبين وتعصين .

              [ ص: 257 ] ما لك إن سألت تكثرين ، فلم إن أنفقت تقترين ؟ أتريدين الحياة ؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة ؟ ولم تشكرين ، تعظمين في الرهبة حين تسألين ، وتقصرين في الرغبة حين تعملين ، تريدين الآخرة بغير عمل ، وتؤخرين التوبة لطول الأمل .

              لا تكوني كمن يقال : هو في القول مدل ، ويستصعب عليه الفعل ، بعض بني آدم إن سقم ندم ، وإن صح أمن ، وإن افتقر حزن ، وإن استغنى فتن ، وإن نشط زهد ، وإن رغب كسل ، يرغب قبل أن ينصب ، ولا ينصب فيما يرغب ، يقول قول الزاهد ، ولا يعمل عمل الراغب ، يكره الموت لما لا يدع ، ويحب الحياة لما لا يصنع ، إن سأل أكثر ، وإن أنفق قتر ، يرجو الحياة ولم يحذر ، ويبغي الزيادة ولم يشكر ، يبلغ في الرغبة حين يسأل ، ويقصر في الرغبة حين يعمل ، يرجو الأجر بغير عمل .

              ويح لنا ما أغرنا ، ويح لنا ما أغفلنا ، ويح لنا ما أجهلنا ، ويح لنا لأي شيء خلقنا ؟ للجنة أم للنار ؟ ويح لنا أي خطر خطرنا ؟ ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا ، ويح لنا مما يراد بنا ، ويح لنا كأنما يعنى غيرنا ، ويح لنا إن ختم على أفواهنا ، وتكلمت أيدينا ، وشهدت أرجلنا ، ويح لنا حين تفتش سرائرنا ، ويح لنا حين تشهد أجسادنا ، ويح لنا مما قصرنا ، لا براءة لنا ، ولا عذر عندنا ، ويح لنا ما أطول أملنا ، ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا ، ويح لنا ولنا الويل الطويل إن لم يرحمنا ربنا ، فارحمنا يا ربنا .

              رب ما أحكمك ، وأمجدك ، وأجودك ، وأرأفك ، وأرحمك ، وأعلاك ، وأقربك ، وأقدرك ، وأقهرك ، وأوسعك ، وأقضاك ، وأبينك ، وأنورك ، وألطفك ، وأخبرك ، وأعلمك ، وأشكرك ، وأحلمك ، وأحكمك ، وأعطفك ، وأكرمك .

              رب ما أرفع حجتك ، وأكثر مدحتك ، رب ما أبين كتابك ، وأشد عقابك ، رب ما أكرم مآبك ، وأحسن ثوابك ، رب ما أجزل عطاءك [ ص: 258 ] وأجل ثناءك ، رب ما أحسن بلاءك ، وأسبغ نعماءك ، رب ما أعلى مكانك ، وأعظم سلطانك ، رب ما أمتن كيدك ، وأغلب مكرك ، رب ما أعز ملكك ، وأتم أمرك ، رب ما أعظم عرشك ، وأشد بطشك ، رب ما أوسع كرسيك ، وأهدى مهديك ، رب ما أوسع رحمتك ، وأعرض جنتك ، رب ما أعز نصرك ، وأقرب فتحك ، رب ما أعمر بلادك ، وأكثر عبادك ، رب ما أوسع رزقك ، وأزيد شكرك ، رب ما أسرع فرجك ، وأحكم صنعك ، رب ما ألطف خيرك ، وأقوى أمرك ، رب ما أنور عفوك ، وأجل ذكرك ، رب ما أعدل حكمك ، وأصدق قولك ، رب ما أوفى عهدك ، وأنجز وعدك ، رب ما أحضر نفعك ، وأتقن صنعك .

              ويحي ، كيف أغفل ولا يغفل عني ؟ أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي ؟ أم كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي ؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي ؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني ؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي ؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري ؟ أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري ؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي ؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي ؟ أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي ؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني ؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني ؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل به لي ؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي ؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي ؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي ؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني ؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي ؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي ؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي ؟ أم كيف يطول أملي والموت أثري ؟ أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي ؟

              ويحي ، فهل ضرت غفلتي أحدا سوائي ؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي ؟ أم هل يكون عملي إلا لنفسي ؟ فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي ؟ [ ص: 259 ] ويحي ، كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني ، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ، ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي ، وشغلت بنفسي عن غيري ، وبدلت السماوات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي ، وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي ، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي ، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي ، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي ، وشاب الوليد وهو أقل ذنبا مني .

              ويحي ، ما أشد حالي وأعظم خطري ، فاغفر لي واجعل طاعتك همي ، وقو عليها جسدي ، وسخ نفسي عن الدنيا ، واشغلني فيما ينفعني ، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي ، وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي ، ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني ، ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي ، وآمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي ، وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري .

              إلهي ، أنت الذي خلقتني ، وفي الرحم صورتني ، ومن أصلاب المشركين نقلتني قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة ، إلهي فارحمني ، إلهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن علي بطاعتك ، وبترك معاصيك أبدا ما أبقيتني ، ولا تفضحني بسرائري ، ولا تخذلني بكثرة فضائحي .

              سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا ، فمن أجل خطيئتي لا تقر عيني ، وهلكت إن لم تعف عني ، سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك ؟ وبأي قدم أقف بين يديك ؟ وبأي لسان أناطقك ؟ وبأي عين أنظر إليك ؟ وأنت قد علمت سرائر أمري ، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني ، ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني ؟

              سبحانك خالقي ، فأنا تائب إليك متبصبص ، فاقبل توبتي ، واستجب دعائي ، وارحم شبابي ، وأقلني عثرتي ، وارحم طول عبرتي ، ولا تفضحني بالذي قد كان مني .

              [ ص: 260 ] سبحانك خالقي ، أنت غياث المستغيثين ، وقرة أعين العابدين ، وحبيب قلوب الزاهدين ، فإليك مستغاثي ومنقطعي ، فارحم شبابي ، واقبل توبتي ، واستجب دعوتي ، ولا تخذلني بالمعاصي التي كانت مني .

              إلهي ، علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني ، فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني ، وفي كتابك المنزل قد نهيتني ، إلهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني ، فأنا تائب إليك فاقبل ذلك مني ، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي وإيماني بك ، فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك ، آمين رب العالمين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية