الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الحجة الثالثة ) الأربعة في الزنا لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون }

( تنبيه ) في نظائر أبي عمران يشترط اجتماع الشهود عند الأداء في الزنا والسرقة ، ولا يشترط في غيرهما ، وصعب على دليل يدل على ذلك ، وقد تقدم أن المناسبات بمجردها لا تكفي في اشتراط الشروط بل لا بد من قياس صحيح أو نص صريح ، وأما قولنا ذلك أبلغ في طلب الستر على الزناة وحفظ الأعضاء عن الضياع فهذا لا يكفي في هذا الشرط فيمكن أيضا على هذا السياق أن نشترط التبريز في العدالة لو يكون الشاهد من أهل العلم والولاية وغير ذلك المناسبات ، وهي على خلاف الاجتماع فلم يبق إلا اتباع موارد النصوص والأدلة الصحيحة وغير ذلك صعب جدا .

[ ص: 88 - 91 ]

التالي السابق


[ ص: 88 - 91 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب الثالث ) في بيان ما تكون الحجة الثالثة وشروطها اليمين زيادة على شروط الشاهدين المذكورة والمدرك وفيه وصول

( الوصل الأول ) في التبصرة قال ابن رشد ويمين القضاء متوجهة على من يقوم أي بالنية التامة على الميت أو على الغائب أو على اليتيم أو على الإحباس أو على المساكين ، وعلى كل وجه من وجوه البر ، وعلى بيت المال ، وعلى من استحق شيئا من الحيوان [ ص: 144 ] ولا يتم الحكم إلا بها ا هـ . قال الباجي في مفيد الحكام أجمع من علمت من أصحاب مالك أنه لا يتم لمستحق غير الرباع والعقار حكم إلا بعد يمينه قال ورأى بعض مشايخنا ذلك لازما في العقار والرباع ، وبعضهم لم ير في ذلك يمينا ا هـ .

وفي معين الحكام اختلف فيمن استحق شيئا من الرباع أو الأصول هل عليه يمين أم لا ، وهذا الثاني هو الذي ذهب إليه مالك ، وجرى عليه العمل ، ووجهه أن الرباع مما جرت العادة بكتب الوثائق فيها عند انتقال الملك عليها ، والإعلان بالشهادة فيها فإذا لم يكن عند المدعى عليه شيء من العقود ، والمكاتب وقامت البينة للطالب قويت حجته ، واكتفي بالبينة عن إحلافه بخلاف سائر المتمولات التي يخفى وجه انتقالها ، ويقل حرص الناس على المشاحنة في كتب الوثاق فيها فتوجهت اليمين لذلك ، وعلى أن عليه يمينا مطلقا ، وهو قول ابن وهب وابن القاسم في كتاب الاستحقاق من العتبية لا بد من يمين من استحق شيئا من ذلك أنه ما باع وما وهب كالعروض والحيوان .

واتفقوا في غير الأصول أنه لا يقضي لمستحق شيئا من ذلك حتى يحلف أو ليس على من أقام بينة في أرض أو حيوان أو سلعة يمين إلا أن يدعي الذي ذلك في يديه أمرا يظن بصاحبه أنه قد فعله فيحلف ما فعله ، ويأخذ ، وهو قول ابن كنانة .

وقال بعض المتأخرين هذا إذا استحقت من يد غير غاصب ، وأما إن استحقت من يد غاصب فلا يمين على مستحقها إذا ثبت ملكها له ا هـ .

قال ابن فرحون ، ومما يحكم فيه باليمين مع الشاهدين كما في الطرر من شهد له شاهدان على خط غريمه بما ادعاه عليه ، والغريم جاحد فلا يحكم له بمجرد الشهادة على خطه حتى يحلف معهما فإذا حلف أنه لحق ، وما اقتضيت شيئا مما كتب به خطه أعطى حقه ، ومن ذلك شهادة السماع قال ابن محرز لا يقضي لأحد بشهادة السماع إلا بعد يمينه لاحتمال أن يكون أصل السماع من شاهد واحد ، والشاهد الواحد لا بد معه من اليمين ، ومن ذلك أيضا إذا جعل الزوج لزوجته إن غاب عنها أكثر من سنة مثلا فأمرها بيدها ، وأشهد على ذلك وغاب فأرادت الأخذ بشرطها عند الأجل ، وأثبت عند الحاكم الزوجية والغيبة واتصالها ، والشرط بذلك فلا بد أن تحلف أنها ما تركت ما جعله بيدها ، وأنه غاب أكثر من المدة التي شرطها ، وهذه يمين استبراء ، ومن ذلك إذا أقامت للغريم المجهول الحال بأنه معدم فلا بد من يمينه أنه ليس له مال ظاهر ولا باطن .

وإن وجد مالا ليؤدين حقه عاجلا لأن البينة إنما شهدت على الظاهر ، ولعله غيب مالا ، ومن ذلك المرأة تدعي على زوجها الغائب النفقة ، وتقيم البينة بإثبات الزوجية والغيبة واتصالها ، وأنهم ما علموه ترك لها نفقة فلا بد من يمينها على ما هو مذكور في محله ، وضابط هذا الباب أن كل بينة شهدت بظاهر فإنه يستظهر بيمين الطالب على باطن الأمر قاله في التوضيح في باب التفليس ا هـ

( الوصل الثاني ) يمين المستحق على البت أنه ما باع ، ولا وهب ، ويمين الورثة على العلم أنه ما خرج عن ملك مورثهم بوجه من الوجوه كلها ، وأن ملك جميعهم يعني الورثة باق إلى حين يمينهم ، وهذه التتمة في اليمين تكون على البت قال ابن سهل وإذا شهد لرجل شاهدان على دين لأبيه حلف أنه لا يعلم أن أباه اقتضى من ذلك شيئا ، وإن كان شيئا معينا فاستحقه بشاهدين حلف أنه ما يعلم أن أباه ما باع ، ولا وهب ، ولا خرج من يده بوجه من وجوه الملك ، واليمين في ذلك على من يظن به علم ذلك ، ولا يمين على من لا يظن به علم ذلك ، ولا على صغير ، ومن نكل ممن يلزمه اليمين منهم سقط من الدين [ ص: 145 ] حصته فقط قال في رواية يحيى بعد يمين الذي عليه الحق من ابن يونس من قوله واليمين في ذلك قال ابن سهل ، ولا يكلف الورثة أن يزيدوا في يمينهم أن الشيء المستحق كان في ملك مورثهم لأن البينة قد شهدوا بذلك ، وقطعوا به .

وقد أنكر هذا على بعض القضاة لما فعله فلا ينبغي للحاكم أن يحكم إلا فيما لا بد منه فينبغي التحفظ في هذه الزيادة وشبهها ، وفي المدونة من أقام ببينة على حاضر بدين فلا يحلف مع بينته على إثبات الحق ، ولا على أنه ما قبض منه حتى يدعي المطلوب أنه دفعه إليه أو دفعه عنه دافع من وكيل أو غيره فحينئذ يحلف ا هـ من تبصرة ابن فرحون

( الوصل الثالث ) في تبصرة ابن فرحون يمين القضاء لا نص على وجوبها لعدم الدعوى على الحالف بما يوجبها إلا أن أهل العلم رأوا ذلك على سبيل الاستحسان نظرا للميت والغائب ، وحياطة عليه ، وحفظا لماله للشك في بقاء الدين عليه ا هـ فمن هنا قال الأصل قول مالك رضي الله عنه لو شهد الشاهدان لشخص بعين في يد واحد لا يستحقها حتى يحلف ما باع ولا وهب ، ولا خرجت عن يده بطريق من الطرق المزيلة للملك ، وهو الذي عليه الفتوى ، والقضاء ، وإن علله الأصحاب بأنه يجوز أن يكون باعها لهذا المدعى عليه أو لمن اشتراها هذا المدعى عليه منه ، ومع قيام الاحتمال لا بد من اليمين مشكل بأنا لا نعلم عندنا ، ولا عند غيرنا خلافا في قبول شهادة شاهدين مسلمين عدلين في الدماء والديون مع أنه يجوز أن يكون أبرأه من الدين أو دفعه له أو عارضه عليه ، ويجوز أيضا العفو عن القاتل الذي يقتل بهما فكما لا اعتبار بهذه الاحتمالات في الدماء والديون لا سيما ، وجل الشهادات في الدماء وغيرها الاستصحاب كذلك لا اعتبار بها في الأموال فكان الشأن أن يقضي بمجرد الشاهدين في الأموال بطريق الأولى من القضاء بمجردها في الدماء والديون .

وبالجملة فاشتراط اليمين مع الشاهدين ضعيف مخالف لظاهر النصوص كقوله عليه السلام { شاهداك أو يمينه } وقوله تعالى { شهيدين من رجالكم } ونحو ذلك مما ظهره أنهما حجة تامة وما علمت أنه ورد حديث صحيح في اشتراط اليمين .

وإثبات شرط بغير حجة بل بمجرد الاحتمالات والمسببات والمناسبات ، سواء كان في الأموال أو في الدماء كأن يقال لا نقبل في الدماء من في طبعه خور أو خوف من القتل مع تبريزه في العدالة لأن ذلك يبعثه على حسم مادة القتل ، ولا يقبل في الدماء وأحكام الأبدان الشبان من العدول في الشيوخ لعظم الخطر في أحكام الأبدان ونحو ذلك خلاف الإجماع ، ومروق من القواعد ، ومنكر من القول لا سيما ، والقياس على الدين يمنع من ذلك ، والفرق في غاية العسر ، وإن ثبت الفرق فمذهب الشافعي وغيره عدم هذا الشرط ، وهو الصحيح ا هـ كلام الأصل ، وسلمه ابن الشاط .

قلت لكن في قوله ، وإن ثبت الفرق إلخ نظر فإنه إذا ثبت الفرق ظهر وجه اشتراط هذا الشرط في الأموال دون الدماء والديون لا سيما عند من يقول بالاستحسان كما يشهد لذلك كلام الإمام أبي إسحاق الشاطبي في كتابه الاعتصام حيث قال إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك وأبو حنيفة بخلاف الشافعي فإنه منكر له جدا حتى قال من استحسن فقد شرع ، والذي يستقري من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين هكذا قال ابن العربي قال فالعموم إذا استمر .

والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم

بأي دليل كان من ظاهر أو معنى قال ويستحسن مالك أن يختص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد [ ص: 146 ] من الصحابة الوارد بخلاف القياس قال ويريان معا تخصيص القياس ، ونقص العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا .

وقال في موضع آخر الاستحسان إيثارك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء ، والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ، وقسمه أقساما عد منها أربعة أقسام ، وهي ترك الدليل للعرف ، وتركه للمصلحة ، وتركه لليسير لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة وحده غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي قال فهو تقويم الاستدلال المرسل على القياس ، وعرفه ابن رشد فقال الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى علو في الحكم ومبالغة فيه فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع ، وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض ، وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة ألبتة لأن الأدلة يقيد بعضها ، ويخصص بعضها كما في الأدلة السنية مع القرآنية ، ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلا كيف وقد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم ، ورواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ، وقال أصبغ في الاستحسان قد يكون أغلب من القياس ، وجاء عن مالك أن الفرق في القياس يكاد يفارق السنة ا هـ .

المراد بلفظه مع تقديم ، وتأخير وقول ابن السبكي في جمع الجوامع بتوضيح من المحلي ، وفسر الاستحسان بعدول عن الدليل إلى العادة للمصلحة .

ورد بأنه إن ثبت أنها أي العادة حق لجريانها في زمنه عليه الصلاة والسلام أو بعده من غير إنكار منه ، ولا من غيره فقد قام دليل من السنة ، والإجماع فيعمل بها قطعا ، وإلا ثبتت حقيقتها ردت قطعا أي فلا تصح محلا للنزاع لم يسلمه العلامة العطار بل قال فيه أن من القواعد أن الضرورات تبيح المحظورات ، وإذا ضاق الأمر اتسع فالحق أن هذا مما يجري فيه الخلاف بلفظه ا هـ ، ولم يتعقبه العلامة الشربيني فتأمله بإنصاف ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية