الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        27 - الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط . }

                                        التالي السابق


                                        قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز - في كتاب تفسير غريب صحيح البخاري " الفطرة " تنصرف في كلام العرب على وجوه ، أذكرها لترد هذا إلى أولاها به ، فأحدها : فطرة الخلق ، فطره : أنشأه ، والله فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ، و " الفطرة " الجبلة التي خلق الله الناس عليها ، وجبلهم على فعلها ، وفي الحديث { كل مولود يولد على الفطرة } قال قوم من أهل اللغة : فطرة الله التي فطر الناس عليها : أي خلقه لهم ، وقيل : معنى قوله " على الفطرة " أي على الإقرار بالله الذي كان أقر به لما أخرجه من ظهر آدم ، " والفطرة " زكاة الفطر . وأولى الوجوه بما ذكرنا : أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه ، وجبل طباعهم على فعله ، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته ، [ ص: 126 ] وقد قال غير القزاز : الفطرة هي السنة ، واعلم أن قوله في هذه الرواية " الفطرة خمس " وقد ورد في رواية أخرى { خمس من الفطرة } وبين اللفظتين تفاوت ظاهر ، فإن الأول ظاهره الحصر ، كما يقال : العالم في البلد زيد ، إلا أن الحصر في مثل هذا : تارة يكون حقيقيا ، وتارة يكون مجازيا ، والحقيقي مثاله ما ذكرناه ، من قولنا : العالم في البلد زيد ، إذا لم يكن فيها غيره ، ومن المجاز { الدين النصيحة } كأنه بولغ في النصيحة إلى أن جعل الدين إياها ، وإن كان في الدين خصال أخرى غيرها ، وإذا ثبت في الرواية الأخرى عدم الحصر - أعني قوله عليه السلام " خمس من الفطرة " - وجب إزالة هذه الرواية عن ظاهرها المقتضي للحصر ، وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضا { عشر من الفطرة } وذلك أصرح في عدم الحصر ، وأنص على ذلك ، و " الختان " ما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية ، يقال : ختن الصبي يختنه ويختنه - بكسر التاء وضمها - ختنا بإسكان التاء ، و " الاستحداد " استفعال من الحديد ، وهو إزالة شعر العانة بالحديد ، فأما إزالته بغير ذلك ، كالنتف وبالنورة : فهو محصل للمقصود ، لكن السنة والأولى : الذي دل عليه لفظ الحديث ، فإن " الاستحداد " استفعال من الحديد .



                                        " وقص الشارب " مطلق ، ينطلق على إحفائه ، وعلى ما دون ذلك ، واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على الشفة ، وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم { وأحفوا الشوارب } وقوم يرون إنهاكها ، وزوال شعرها ، ويفسرون به الإحفاء ، فإن اللفظ يدل على الاستقصاء ، ومنه : إحفاء المسألة ، وقد ورد في بعض الروايات { انهكوا الشوارب } والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان : أحدهما : مخالفة زي الأعاجم ، وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح ، حيث قال " خالفوا المجوس " . والثاني : أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة ، وأنزه من وضر الطعام .



                                        وتقليم الأظفار قطع ما طال عن اللحم منها ، يقال : قلم أظفاره تقليما ، والمعروف فيه : التشديد ، كما قلنا ، والقلامة ما يقطع من الظفر ، وفي ذلك معنيان : أحدهما : تحسين الهيئة والزينة ، وإزالة القباحة من طول الأظفار . [ ص: 127 ] والثاني : أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه ، لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة ، وهذا على قسمين :

                                        أحدهما : أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا بينا ، وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه ، فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ ، وأما إذا زاد على المعتاد : فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة ، وقد ورد في بعض الأحاديث : الإشارة إلى هذا المعنى .



                                        و " نتف الآباط " إزالة ما نبت عليها من الشعر بهذا الوجه ، أعني النتف ، وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود ، إلا أن استعمال ما دلت عليه السنة أولى ، وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة وإزالة شعر الإبط ، فذكر في الأول " الاستحداد " وفي الثاني " النتف " وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما ، ولعل السبب فيه : أن الشعر بحلقه يقوى أصله ، ويغلظ جرمه ، ولهذا يصف الأطباء تكرار حلق الشعر في المواضع التي يراد قوته فيها ، والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها ، فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله ، المقلل للرائحة الكريهة ، وأما العانة : فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط ، فزال المعنى المقتضي للنتف ، رجع إلى الاستحداد ; لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض ، وقد اختلف العلماء في حكم الختان ، فمنهم من أوجبه ، وهو الشافعي ، ومنهم جعله سنة ، وهو مالك وأكثر أصحابه [ هذا في الرجال ، وأما في النساء : فهو مكرمة على ما قالوا ] ، ومن فسر " الفطرة " بالسنة فقد تعلق بهذا اللفظ في كونه غير واجب لوجهين :

                                        أحدهما : أن السنة تذكر في مقابلة الواجب .

                                        والثاني : أن قرائنه مستحبات ، [ ص: 128 ] والاعتراض على الأول : أن كون " السنة " في مقابلة " الواجب " وضع اصطلاحي لأهل الفقه ، والوضع اللغوي غيره ، وهو الطريقة ، ولم يثبت استمرار استعماله في هذا المعنى في كلام صاحب الشرع صلوات الله عليه ، وإذا لم يثبت استمراره في كلامه صلى الله عليه وسلم لم يتعين حمل لفظه عليه ، والطريقة التي يستعملها الخلافيون من أهل عصرنا وما قاربه ، أن يقال : إذا ثبت استعماله في هذا المعنى ، فيدعى أنه كان مستعملا قبل ذلك ; لأنه لو كان الوضع غيره فيما سبق ، لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع ، والأصل عدم تغيره ، وهذا كلام طريف ، وتصرف غريب ، قد يتبادر إلى إنكاره ، ويقال : الأصل استمرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمان ، أما أن يقال : الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمن الماضي : فلا ، لكن جوابه ما تقدم ، وهو أن يقال : هذا الوضع ثابت ، فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي ، فهو المطلوب ، وإن لم يكن ، فالواقع في الزمان الماضي غيره حينئذ ، وقد تغير ، والأصل عدم التغير لما وقع في الزمن الماضي ، فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي ، وهذا - وإن كان طريفا ، كما ذكرناه - إلا أنه طريق جدل لا جلد ، والجدلي في طرائق التحقيق : سالك على محجة مضيق ، وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ظنا ، وأما إذا استوى الأمران ، فلا بأس به ، وأما الاستدلال بالاقتران : فهو ضعيف ، إلا أنه في هذا المكان قوي ; لأن لفظة " الفطرة " لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة ، فلو افترقت في الحكم - أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب ، وفي بعضها لإفادة الندب - لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول ، وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفا إذا استقلت الجمل في [ ص: 129 ] الكلام ، ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين ، كما جاء في الحديث { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ولا يغتسل فيه من الجنابة } حيث استدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده ، لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه ، والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية