الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الخامسة ) نص القاضي عبد الوهاب وغيره من العلماء على أن حيث وأين من صيغ العموم فيلزم على هذا إذا قال لها : حيث وجدتك أو أين وجدتك فأنت طالق فوجدها طلقت ثم وجدها في عدتها مرارا أن تطلق عليه ثلاثا لأجل العموم وكذلك القول في متى ولا يلزم بها إلا طلقة واحدة وهو مشكل لأن مقتضى نصهم على العموم التكرير تحقيقا للعموم والفرق بين المطلق والعام فإن المطلق هو الذي يقتصر منه على فرد ألا ترى أن كلما لما كانت للعموم تكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه في قوله كلما دخلت الدار فأنت طالق فتكرر دخولها في عدتها طلقت ثلاثا فكيف الجمع بين العموم وأنه لا يلزم إلا طلقة واحدة وما الفرق بين متى ما وكلما وما معنى ما فيهما ؟ .

والجواب مبني على قاعدة وهي أن التعليق ينقسم إلى أربعة أقسام : عام على عام ومطلق على مطلق ومطلق على عام وعام على مطلق القسم الأول وهو تعليق عام على عام فهو نحو كلما دخلت [ ص: 96 ] الدار فأنت طالق علق جميع الطلقات على جميع الدخلات على وجه التفريق لإفراد الطلاق على إفراد الدخول لا على وجه اجتماع أفراد الطلاق لكل فرد من إفراد الدخول فلا جرم لزم بكل دخلة طلقة .

والقسم الثاني تعليق مطلق على مطلق نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وإذا دخلت الدار فأنت طالق علق مطلق الطلاق على مطلق الدخول فإذا وجد مطلق الدخول لزم مطلق الطلاق وانحلت يمينه وإن وإذا في ذلك سواء غير أن الفرق بينهما من وجوه أخر وهو أن إذا تدل على الزمان مطابقة والشرط يعرض لها فيلزم في بعض الصور وقد تعرى عن الشرط وتستعمل ظرفا مجردا كقوله تعالى { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } فهي في موضع نصب على الحال ومعناه أقسم بالليل حالة غشيانه وبالنهار حالة تجليه لأنها أكمل الحالات والقسم تعظيم للمقسم به وتعظيم الشيء في أعظم حالاته مناسب وأما إن فتدل على الشرط مطابقة وعلى الزمان التزاما عكس إذا فإن الدخول لا بد له من زمان بطريق اللزوم فهما متعاكسان من هذا الوجه وإن استويا في الإطلاق وبقيت أمور أخر تختص بها إذا نحو الأسمية وغيرها لا يناسب ذكرها هنا .

( القسم الثالث ) تعليق مطلق على عام نحو متى وأين وحيث فهذه من صيغ العموم في الزمان والمكان نحو أنت طالق أبدا فإنه يلزم طلقة واحدة فكأنه قال : أنت طالق في جميع الأزمنة أو في جميع البقاع طلقة واحدة كما لو صرح بقوله أنت طالق في جميع الأيام أو في كل الأيام طلقة واحدة وهذه الصيغ هي أبلغ صيغ العموم ومع ذلك لو صرح بها لم تلزمه إلا طلقة واحدة [ ص: 97 ] وكما تقول : الحج واجب في كل العمر مرة واحدة فتصرح بالعموم في العمر وتريده ومع ذلك فمظروفه حجة واحدة .

وهو مطلق الحج فكما أنه إذا حج حجة واحدة في عمره يبقى بقية عمره لا يلزمه فيها حج كذلك إذا لزمه بزمان واحد في متى وأين أو في بقعة واحدة في حيث طلقة واحدة فتبقى بقية الأزمنة والبقاع لا يلزمه فيها طلاق فتأمل ذلك فأمكن الجمع بين قول العلماء أن هذه الصيغ للعموم وأنه لا يلزم فيها إلا طلقة واحدة فإن قلت : فإذا لم يلزمه بإذا إلا طلقة واحدة ولا في متى إلا طلقة واحدة فكيف يظهر أثر العموم وإذا لم يظهر أثر العموم كيف يقضى به ونحن إنما قضينا بالعموم في قول القائل مثلا من دخل داري فله درهم إلا بظهور أثر ذلك فإن كل من دخل يستحق ومن أحرم استحق مانعه الذم فإذا ذهبت هذه الآثار واتحدت الأحكام بين المطلقات والعمومات وكان الطلاق في زمن غير معين على سبيل البدل في القسمين وأن ذلك الزمان غير معين فيهما كان القول بالعموم في أحدهما والإطلاق في الآخر تحكما محضا والتحكم المحض لا عبرة به والعلماء برآء من ذلك ومن أين فهم العلماء العموم على هذا التقدير فعاد الإشكال ؟ قلت سؤال حسن قوي والجواب عنه من وجهين :

( أحدهما ) ظواهر النصوص الدالة على ذلك منها قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لا يفهم منه إلا الأمر بقتلهم في جميع البقاع وثانيها قوله تعالى في الآية الأخرى { حيث ثقفتموهم } لا يفهم منه إلا ذلك وثالثها قوله تعالى { أينما تكونوا يدركم الموت } معناه في أي بقعة كنتم ورابعها قوله تعالى { وهو معكم أينما كنتم } معناه علمه سبحانه وتعالى محيط بالخلائق [ ص: 98 ] في أي بقعة كانوا ونظائره كثيرة في الكتاب العزيز والسنة وكلام العرب وإذا كان لا يفهم من هذه الصيغ إلا العموم دل ذلك على وضعها له .

( الوجه الثاني ) الدال على كونها للعموم أن القاعدة في جميع صيغ العموم أن اسم الجنس إذا أضيف عم نحو قوله عليه السلام { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } لا يفهم منه إلا الحكم بالطهورية على جميع أفراد الماء وجميع أفراد الميتة وأين وحيث كل واحد منهما اسم جنس المكان وهما مضافان لما بعدهما بل الإضافة لازمة لهما فيكونان للعموم فإن قلت : ذلك يبطل بإذا وإذ وعند ووراء وقدام وبقية الجهات الست وغير وسوى وشبه ومثل ونحوها مما لا يكاد يستعمل إلا مضافا فإنها ليست للعموم مع وجود الإضافة التي هي في حيث وأين قلت : التزم أن الجميع للعموم .

وتقريره أن كل الذي هو أقوى صيغ العموم إنما يعم فيما أضيف إليه خاصة فإذا قلت : كل رجل له درهم إنما يعم الرجال ولو قلت : كل حيوان إنما عم الحيوانات كلها ولو قلنا : كل نبي اختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يتعدى العموم ما أضيف إليه إذا تقرر هذا فنقول : إذا قال القائل : إذا زالت الشمس فأنت حر يقتضي العموم في زمن الزوال خاصة ولا مانع من القول بأنه للعموم وكذلك إذا قلت : آتيك إذا جاء زيد عام في جميع زمان مجيء زيد وكذلك عندك مال يتناول جميع حوزتك وكذلك قوله تعالى { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } عام في جميع بقاعنا المشتملة على أموالنا ومملوكاتنا وكذلك وراءك وأمامك يتناول جميع البقاع التي هي وراءك وأمامك من غير حد ولا نهاية وكذلك كل حد أشير إليه من ذلك كان اللفظ فيه حقيقة وكان اللفظ متناولا له وكذلك بقية الجهات الست عامة في مسمياتها [ ص: 99 ] وأما غير وشبه وسوى ومثل فإنها لا تتعرف بالإضافة على ما نص عليه النحاة وما لا يتعرف بالإضافة كان وجود الإضافة فيه كعدمها فلذلك لم يعم بخلاف أين وحيث فإن قلت : لم نجد أحدا عد هذه الصيغ كلها من صيغ العموم في كتب الأصول وكتب النحو .

( قلت ) : كفاهم في التنبيه عليها قولهم اسم الجنس إذا أضيف عم إذا تقرر أن حيث وأين من صيغ العموم فيصيرمعنى أنت طالق حيث جلست مثل قوله أنت طالق في جميع البقاع أو في كل البقاع ومعلوم أنه لو صرح بذلك للزمه طلقة واحدة ويكون العموم ثابتا للظرف وكذلك ها هنا فصح قول العلماء أن حيث وأين للعموم وأن اللازم طلقة واحدة ولا يتنافى ذلك ولا يتناقض [ ص: 100 ]

( القسم الرابع ) الذي بقي من التقسيم في القاعدة وهو تعليق عام على مطلق فيكون معناه التزام جميع الطلاق في زمن فرد فهذا القسم الحكم فيه أن يلزم من ذلك العموم ثلاث ويسقط ما عداها كما لو قال : لها أنت طالق طلقات لا نهاية لها في العدد إن دخلت الدار فقد صرح بالعموم مع الإطلاق في الزمان فيلزمه ثلاث تطليقات ويسقط الباقي فهذا القسم موجود في اللغة بهذا اللفظ ونحوه من الألفاظ المركبة ولم أجده بلفظ مفرد كما هو في كلما وأما الفرق بين كلما ومتى وأينما وحيثما أن ما في الجميع زمانية فمعنى قوله كلما دخلت الدار فأنت طالق كل زمان تدخلين الدار فأنت طالق في ذلك الزمان فجعل جميع الأزمنة كل فرد منها ظرفا لحصول طلقة فيتكرر الطلاق في تلك الظروف توفية باللفظ .

ومقتضاه حتى يحصل في كل زمان طلقة أما متى ما فمتى للزمان المبهم لا للمعين حتى نص النحاة على منع قولنا متى تطلع الشمس فإن زمن طلوع الشمس متعين فيمتنع السؤال عنه بمتى بخلاف قولك متى يقدم زيد فإن زمن قدوم زيد مبهم وإذا كان معناها الزمان المبهم وما أيضا معناها الزمان فيصير معنى الكلام زمان زمان تدخلين الدار فأنت طالق ومعلوم أنه لو صرح بهذا لكان في معنى إعادة اللفظ وأن لا فرق بينه وبين قوله زمان تدخلين الدار أنت فيه طالق بخلاف قولك كلما فإنها تقتضي الإحاطة والشمول لجميع أفراد ما دخلت عليه والتكرار فيه كقولك كلما أكرمت زيدا أكرمني أي إكرامه يتكرر بتكرر إكرامي وأما حيثما وأينما فهو مكان أضيف إلى زمان وتقديره مكان زمان دخولك الدار أنت طالق فيه ومعلوم أنه لو [ ص: 101 ] صرح بهذا لم يفهم منه التكرار بل تطلق في جميع ذلك المكان طلقة واحدة فهذا هو البحث الكاشف عن هذه الحقائق والفروق بينها وبذلك يتضح الفقه فيها .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال شهاب الدين ( المسألة الخامسة نص القاضي عبد الوهاب وغيره من العلماء على أن حيث وأين من صيغ العموم فيلزم على هذا إذا قال : لها حيث وجدتك أو أين وجدتك فأنت طالق فوجدها فطلقت ، ثم وجدها في عدتها مرارا أن تطلق عليه ثلاثا لأجل العموم وكذلك القول في متى ما للعموم ولا يلزم بها إلا طلقة واحدة وهو مشكل إلى آخر تقريره السؤال ) قلت : وقع في النسخة الواقعة لي من هذا الكتاب متى ما وكان ينبغي أن تكون متى دون ما كحيث وأين وقد قال : في آخر إيراد السؤال وما الفرق بين كلما ومتى ما وما معنى ما فيهما فظهر بذلك أن تمثيله بمتى إنما هو بإثبات ما .

قال : ( والجواب مبني على قاعدة وهي أن التعليق ينقسم إلى أربعة أقسام : تعليق عام على عام ومطلق على مطلق ومطلق على عام وعام على مطلق فأما القسم الأول فهو نحو كلما دخلت [ ص: 96 ] الدار فأنت طالق إلى آخر ما قال في هذا القسم ) قلت : إنما ينبغي له أن يأتي في المعلق بلفظ عام مثل فأنت طالق جميع أفراد الطلاق أو كل فرد من أفراد الطلاق وما أشبه ذلك وأما قوله فأنت طالق فليس بعام وكيف وهو أتى به بعد في مثال تعليق مطلق على مطلق قال :

( والقسم الثاني تعليق مطلق على مطلق نحو إن دخلت الدار فأنت طالق إلى آخر ما قال : في هذا القسم ) قلت : قد نقص قوله أن إذا للإطلاق بعد هذا وقال : إنها للعموم وقوله في أن إنها تدل على الزمان التزاما فيه نظر والأصح أنها لا دلالة لها على الزمان وإنما الدال الفعل الذي تدخل عليه .

قال : ( القسم الثالث تعليق مطلق على عام نحو متى وأين إلى آخر قوله ومع ذلك لو صرح بها لم تلزمه إلا طلقة واحدة ) قلت : زعمه أن قول القائل أنت طالق في جميع الأيام أو في كل الأيام طلقة واحدة من ألفاظ العموم وأنه من أبلغ صيغه ليس بصحيح فإن كل إذا أضيفت إلى المعرف لا تكون للعموم وإنما تكون في معنى جميع وجميع لا تضاف إلا إلى المعرف فلا يقال جميع رجل في معنى كل رجل فجميع الأيام وكل الأيام ليسا من ألفاظ العموم وإنما لفظ العموم أن يقول : أنت طالق كل يوم أو كل يوم أنت فيه طالق ، ثم إنه أراد تمثيل تعليق مطلق على عام فلم يأت بعام ولا مطلق فإن قوله في كل الأيام ليس من ألفاظ العموم كما تبين .

وقوله طلقة واحدة ليس من ألفاظ الإطلاق لأنه قيد لفظ الطلاق بقوله [ ص: 97 ] طلقة ، ثم أكده بقوله واحدة .

قال : ( وكما نقول الحج واجب في كل العمر مرة إلى قوله يبقى بقية عمره لا يلزمه فيها حج ) قلت : جميع ما قاله غير صحيح فإن لفظ كل العمر ليس من ألفاظ العموم ولفظ مرة واحدة ليس من ألفاظ الإطلاق .

قال : ( كذلك إذا لزمه بزمان واحد في متى وأين أو في بقعة واحدة في حيث طلقة واحدة إلى آخر قوله فأمكن الجمع بين قول العلماء أن هذه الصيغ للعموم وأنه لا يلزم فيها إلا طلقة واحدة ) قلت : مساق أين مع متى يقتضي أنها عنده للزمان وهذا غاية الخطأ وقوله فأمكن الجمع بين قول العلماء ليس على الوجه الذي ذكر يمكن الجمع بين قول العلماء ، وما أراه فهم كلامهم ولا عرف مرامهم ألبتة .

قال : ( فإن قلت : إلى آخر ما جعله جوابا لهذا السؤال ) قلت : السؤال وارد لازم وما جعله جوابا ليس بجواب ولكنه احتجاج على أن تلك الألفاظ [ ص: 98 ] من ألفاظ العموم فما جعله جوابا هو في الحقيقة عاضد للسؤال .

قال : ( فإن قلت : ذلك يبطل بإذا وإذ وعند ووراء وقدام وبقية الجهات الست وغير وسوى وشبه ومثل ونحوها مما لا يكاد يستعمل إلا مضافا فإنها ليست للعموم إلى قوله فلا يتعدى العموم ما أضيف إليه ) قلت : التزامه أن الجميع للعموم فيه نظر وإلا ظهر أن الأمر ليس كما التزم وما جعله تقريرا لما التزمه من أن صيغ العموم إنما تعم فيما أضيفت إليه وإن كان صحيحا لا حاجة له فيه على مرامه بوجه .

قال : ( إذا تقرر هذا فنقول إذا قال القائل : إذا زالت الشمس فأنت حر يقتضي العموم في زمن الزوال خاصة ولا مانع من القول بأنه للعموم ) قلت : بل لا موجب للقول بالعموم .

قال : ( وكذلك إذا قلت : آتيك إذا جاء زيد عام في جميع زمان مجيء زيد وكذلك عندك مال يتناول جميع حوزتك ) قلت : قوله أن ذلك للعموم دعوى بغير حجة .

قال : ( وكذلك قوله تعالى { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } عام في جميع بقاعنا المشتملة على أموالنا ) قلت : العموم في الآية إنما هو من جهة ما .

قال : ( وكذلك وراءك وأمامك إلى قوله وكذلك بقية الجهات الست عامة في جميع مسمياتها ) قلت : كل ما قاله دعوى لم يأت عليها بحجة وجميع ما ادعاه عموما إنما هو عموم الحقيقة لا عموم الاستغراق [ ص: 99 ] والحكم لا يلزم شموله للأفراد إلا في الألفاظ الموضوعة للعموم الاستغراقي كما إذا قلت : كل رجل فله درهم فإن ذلك يقتضي أن كل واحد من الرجال يستحق درهما وأما إذا قلت : الرجل له درهم وأردت بالألف واللام العهد في الجنس ولم ترد بها العهد في الشخص ولا العموم الاستغراقي على من قال بذلك فلا يستحق كل واحد من الرجال درهما ولكن يستحق الجنس كله درهما خاصة .

قال : ( وأما غير وسوى وشبه ومثل إلى قوله بخلاف أين وحيث ) قلت : قوله فلذلك لم يعم إما أن يريد فلكون هذه الإضافة وجودها كعدمها أو لكون هذه الألفاظ لا تتعرف بالإضافة أو لمجموع الأمرين فإن أراد الأول فليس بصحيح لأن قول القائل أكرم حسان الوجوه يعم مع أن إضافته وجودها كعدمها وإن أراد الثاني فليس بصحيح أيضا لأن قول القائل كل رجل له درهم يعم مع أن لفظ كل لا يتعرف بهذه الإضافة وإن أراد الثالث فليس بصحيح أيضا لأنه لا معنى للمجموع إلا كون هذه الإضافة وجودها كعدمها والمراد بأن وجودها كعدمها كون المضاف لا يتعرف بها فآل الأمر إلى الثاني وقد تبين بطلانه .

قال : ( فإن قلت : لم نجد أحدا عد هذه الصيغ كلها من صيغ العموم في كتب الأصول وكتب النحو قلت : كفاهم في التنبيه عليها قولهم اسم الجنس إذا أضيف عم ) قلت : لعل مرادهم إذا أضيف لغير الجمل وكان مما ينطلق على القليل والكثير مسماه كالمال ونحوه لا كالعبد ونحوه ومع ذلك في قولهم ذلك نظر والأصح أنه لا يعم مثل قول القائل عبدي حر لا يصح فيه دعوى العموم وإنما يصح ذلك في إضافة الجمع كقول القائل : عبيدي أحرار فلم يكن العموم فيه من جهة كونه اسم جنس أضيف وإنما كان العموم لأنه جمع أضيف والله أعلم .

قال : ( إذا تقرر أن حيث وأين من صيغ العموم إلى قوله ولا يتنافى ذلك ولا يتناقض ) قلت : لم يتقرر ذلك ولو تقرر لكان معنى قول القائل حيث جلست فأنت طالق أنت طالق في كل مكان جلست فيه فإذا جلست في أماكن عدة اقتضى اللفظ لزوم الطلاق في كل واحد واحد من تلك الأماكن أي عدد كانت غير أن الشرع قصر الطلاق على الثلاث وقطع العصمة بها فالزائد عليها لغو .

وإذا لم يتقرر ذلك [ ص: 100 ] فكون كلام العلماء لم يتناف ولم يتناقض ليس لما ذكر بل لكون تلك الصيغ ليست للعموم والله أعلم .

قال : ( القسم الرابع الذي بقي من التقسيم في القاعدة تعليق عام على مطلق فيكون معناه التزام جميع الطلاق في زمن فرد ) قلت : قوله فيكون معناه التزام جميع الطلاق في زمن فرد إن أراد أن ذلك مقتضى اللفظ فليس بصحيح لأن ما يقتضي زمنا فردا ليس بمطلق وإنما يلزم فيه الفرد لأنه أقل الممكن لا لأن لفظ الإطلاق يقتضيه وإن أراد أنه يلزم لأنه أقل مقتضى اللفظ في ضرورة الوجود فذلك صحيح .

( قال : فهذا القسم الحكم فيه أن يلزم من ذلك العموم الثلاث ويسقط ما عداها كما لو قال : لها أنت طالق طلقات لا نهاية لها في العدد إن دخلت الدار إلى قوله كما هو في كلما ) قلت : ما قاله في ذلك صحيح .

قال : ( وأما الفرق بين كلما ومتى وما وأينما وحيثما إلى آخر المسألة ) قلت : ما قاله من الفرق بين كلما ومتى ما يلزم منه نقيض قوله قبل أن متى للعموم ويلزم من قوله أن ما للزمان أنها في هذا الموضع اسم وما أرى ذلك قولا لأحد من النحاة ، ثم بنى على ذلك أن حيثما معناها مكان وزمان وليس ذلك بصحيح وقوله أن بحثه ذلك هو البحث الكاشف عن هذه الحقائق ليس كما قال : بل هو المخلط لهذه الحقائق وقوله فبذلك [ ص: 101 ] يتضح الفقه فيها قد تبين أن بذلك يشكل الفقه فيها أما يتضح فلا .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الخامسة ) أدوات الشرط عند المناطقة والفقهاء على قسمين : ما يفهم العموم فيقتضي تكرار المعلق بتكرار المعلق عليه وما يفهم الإطلاق فلا يقتضي ذلك بل يقتصر من المعلق على فرد ولو تكرر المعلق عليه إلا أن المناطقة اقتصروا فيما يفهم الإطلاق على [ ص: 105 ] لو وإن وإذا وجعلوا ما عدا ذلك مما يفهم العموم والفقهاء اقتصروا فيما يفهم العموم على كلما ومهما وجعلوا ما عدا ذلك مما يفهم الإطلاق ففي البناني على عبق .

قال ابن رشد إذا قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق فلا ترجع عليه اليمين إن تزوجها ثانية ومتى ما عند مالك مثل إن إلا أن يريد بها معنى كلما وأما مهما فتقتضي التكرار بمنزلة كلما انظر " ق " ا هـ .

وفي مجموع الأمير وفي واحدة في واحدة أو بما لا يقتضي التكرار كمتى ما وإذا ما لا كلما وكرر واحدة وهل كذلك طالق أبدا أو ثلاثا خلاف ا هـ . وفي ضوء الشموع قوله كمتى ما تمثيل بالمتوهم إلا خفي فإن المناطقة جعلوها سورا كليا في الشرطيات مثل كلما ولكن روعي هنا العرف من إرادة الفورية فمعنى متى ما دخلت فأنت طالق أنها تطلق بمجرد دخولها فلا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول إلا أن ينوي ذلك وأما إن فعدم اقتضائها التكرار ظاهر ا هـ .

هذا إذا كان المعلق عليه غير طلاق كالدخول في المثال أما إذا كان طلاقا كمتى ما وإذا ما طلقتك فأنت طالق أو متى ما أو إذا ما وقع عليك طلاقي فأنت طالق وطلقها واحدة ففي كون متى ما وإذا ما من أدوات التكرار ككلما فيقع عليه الطلاق الثلاث في هذه الصور كما وقع عليه في صورتي كلما طلقتك أو وقع عليك طلاقي فأنت طالق وطلقها واحدة لأن الثانية لزمته بالتعليق على الأولى التي هي فعلة حقيقة فصارت الثانية فعلة التزاما لأن فاعل السبب وهو الأولى فاعل المسبب وهو الثانية فكأنه طلقها اثنتين أي فتقع الثالثة بمقتضى إرادة التكرار أو ليست من أدوات التكرار كان فيلزمه فيهما طلقتان وأما الثالثة فلا تلزمه كما أن من قال إن طلقتك فأنت طالق يلزمه طلقتان لأنه لا تكرار قولان الأول اقتصر عليه العلامة خليل في مختصره حيث قال عاطفا على ما يلزم فيه الثلاث أو كلما أو متى ما أو إذا ما طلقتك أو وقع عليك طلاقي فأنت طالق وطلقها واحدة ا هـ .

والثاني اعتمده العلامة الشيخ علي العدوي في حاشيته على الخرشي ثم قال : والمعلق عليه هنا طلاق وما تقدم من قوله أو متى ما فعلت وكرر فالمعلق عليه غير طلاق فلا ينافي هذا ما قالوه أي من أن متى ومتى ما عند مالك مثل إن مع أن المنطقيين على أن إن ولو وإذا للإهمال ومتى من أسوار الكلي ا هـ فتحصل من هذا أن أدوات الشرط عند فقهائنا [ ص: 106 ] على ثلاثة أقسام : .

الأول ما يفهم العموم مطلقا كإن كان المعلق عليه طلاقا أو غيره وهو كلما ومهما الثاني ما يفهم الإطلاق مطلقا كان المعلق عليه طلاقا أو غيره وهو إن وإذا ولو الثالث ما يفهم الإطلاق اتفاقا إذا كان المعلق عليه غير الطلاق مراعاة للعرف من إرادة الفورية لا المعنى اللغوي من إرادة العموم ويفهم العموم مراعاة للمعنى اللغوي أو الإطلاق مراعاة للعرف من إرادة الفورية على الخلاف إذا كان المعلق عليه طلاقا وهو الباقي كمتى ومتى ما قلت : وعلى هذا لا يتجه على نص القاضي عبد الوهاب وغيره من العلماء على أن حيث وأين من صيغ العموم ا هـ ما قيل من أن مقتضى نصهم على العموم التكرير فيلزم إذا قال لها : حيث وجدتك أو أين وجدتك فأنت طالق فوجدها طلقت ثم وجدها في عدتها مرارا أن تطلق عليه ثلاثا تحقيقا للعموم وللفرق بين المطلق والعام وإذا لم يترتب عليه مقتضاه من التكرار وقيل : لا يلزم قائل ذلك إلا طلقة واحدة فكيف يقضى به أو يستدل على تحققه بأن ظواهر النصوص دالة عليه مثل قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لا يفهم منه إلا الأمر بقتلهم في جميع البقاع وقوله تعالى { حيث ثقفتموهم } لا يفهم منه إلا ذلك وقوله تعالى { أينما تكونوا يدركم الموت } معناه علمه تعالى محيط بالخلائق في أي بقعة كانوا ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب العزيز والسنة وكلام العرب .

وإذا كان لا يفهم من هذه الصيغ إلا العموم دل ذلك على وضعها له ونحن لا نقضي بالشيء إلا إذا ظهر أثره ألا ترى أن العموم في قول القائل : كلما دخلت الدار فأنت طالق إنما قضينا به عند ظهور أثره من تكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه فإذا تكرر دخولها في عدتها طلقت عليه ثلاثا وكذا إنما قضينا به في قوله من دخل داري فله درهم عند ظهور أثره فإن كل من دخل يستحق ومن حرم استحق مانعه الذم فلو قضينا به عند عدم ظهور أثره كما هنا للزم اتحاد أحكام المطلقات والعمومات وكان القول بالعموم في أحدها والإطلاق في الآخر تحكما محضا والتحكم المحض لا عبرة به والعلماء براء من ذلك ولا حاجة للجواب عنه بما حاصله أن العموم في حيث وأين مثل العموم في نحو أنت طالق أبدا في كونه ثابتا للظرف لا للمظروف فكما أن معنى أنت طالق أبدا أنت طالق .

[ ص: 107 ] في كل أو جميع الأزمنة كذلك معنى أنت طالق حيث أو أين جلست أنت طالق في كل أو جميع البقاع لأمرين : الأول أن أين وحيث كل واحد منهما اسم جنس للمكان ملازم للإضافة .

والقاعدة أن اسم الجنس إذا أضيف عم الثاني أن صيغ العموم إنما تعم فيما أضيفت إليه خاصة وكما أنه لو قال : أنت طالق أبدا يلزمه طلقة واحدة على المذهب كما يدل عليه كلام ابن العربي في الأحكام بل يفيد أنه قول جميع الفقهاء كما ستقف على نصه كذلك لو قال : أنت طالق حيث أو أين جلست يلزمه طلقة واحدة فصح قول العلماء أن حيث وأين للعموم وأن اللازم طلقة واحدة ولا يتنافى ذلك ولا يتناقض على أن في هذا الجواب نظرا من وجوه : أحدها أن أنت طالق أبدا وإن سلم أن معناه أنت طالق في جميع أو كل الأزمنة إلا أنا لا نسلم أن قول القائل أنت طالق في جميع أو كل الأيام من صيغ العموم فإن كل إذا أضيفت إلى المعرف لا تكون للعموم وإنما تكون في معنى جميع وجميع لا تضاف إلا إلى المعرف فلا يقال : جميع رجل في معنى كل رجل فجميع الأيام وكل الأيام ليسا من ألفاظ العموم وإنما لفظ العموم أن يقول : أنت طالق كل يوم أو كل يوم أنت فيه طالق فمن هنا قال ابن العربي في الأحكام عند قوله تعالى { لا تقم فيه أبدا } قوله أبدا ظرف زمان مبهم لا عموم له ولكنه إذا اتصل بالنهي أفاد العموم فإنه نكرة في سياق النهي وكأنه قال : لا تقم فيه في وقت من الأوقات وقد قال الفقهاء : لو قال رجل لامرأته : أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة ا هـ .

نقله الرهوني عنه في حاشيته على حواشي عبق نعم في العطار على محلى جمع الجوامع بعد أن نقل تنظير صاحب جمع الجوامع في شرح المنهاج على عد جميع من صيغ العموم بقوله لا أدري كيف يستفاد العموم من لفظة جميع فإنها لا تضاف إلا إلى المعرفة تقول جميع القوم وجميع قومك ولا تقول جميع قوم ومع التعريف باللام أو الإضافة يكون التعميم مستفادا منهما لا من لفظة جميع ا هـ قال ما نصه .

وأجيب بأن العموم من جميع إذا قدرت اللام في المضاف إليه للجنس لا للاستغراق أو كان المضاف إليه معرفا بالإضافة نحو جميع غلام زيد إذ عموم أجزائه من جميع لا من تعريف غلام بالإضافة على أن النظر منقوض بنحو جميع زيد حسن إذ المضاف إليه معرفة ولا عموم فيه ا هـ فتأمل .

ثانيها أنا لا نسلم أن القاعدة أن اسم الجنس [ ص: 108 ] إذا أضيف عم وإنما القاعدة أن الجمع إذا أضيف عم فقول القائل : عبيدي أحرار لم يكن العموم فيه من جهة كونه اسم جنس أضيف وإنما كان العموم لأنه جمع أضيف على أنا لو سلمنا أن القاعدة ما ذكر لا نسلمه على إطلاقه بل مرادهم إذا أضيف لغير الجمل وكان مما ينطلق مسماه على القليل والكثير كالماء في قوله عليه الصلاة والسلام { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ثالثها أن كون صيغ العموم إنما تعم فيما أضيفت إليه وإن كان صحيحا لا حجة له فيه على مرامه بوجه بل ربما اقتضى خلافه وذلك أن مرامه التسوية بين أنت طالق حيث أو أين جلست وأنت طالق أبدا في كون العموم فيهما ثابتا للظرف الذي هو البقاع والأزمنة وهذا يقتضي عدمها وأن العموم في الأول في المظروف وهو الجلوس لأنه هو المضاف إليه لا في الظرف كما هو في الثاني فافهم والله أعلم .




الخدمات العلمية