الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل ، وأحدهما مباح لقوله : { فانتشروا في الأرض } . والثاني : واجب على ما يأتي تفصيله إن شاء الله ، وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ; لما يأتي في ذلك من الفوائد ، ويتركب عليه من الأحكام ، فأما الأكل فلقضاء اللذة ، وأما إيتاء الحق فلقضاء حق النعمة ، فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة ، واستقامة الأعضاء ، وسلامة الحواس ، ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء ، وقضاء اللذات ، وبلوغ الآمال ; ففرض الصلاة كفاء نعمة البدن ، وفرض الزكاة كفاء نعمة المال ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ; ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف . [ ص: 282 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : قوله تعالى : { وآتوا حقه }

                                                                                                                                                                                                              اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أنه الصدقة المفروضة ; قال سعيد بن المسيب وغيره ، ورواه ابن وهب ، وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام ; وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غبر ; قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن هذا منسوخ بالزكاة ; قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                              وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يخلصوا القول فيه ، وحقيقة الكلام عليه أن قوله : { آتوا } مفسر ، وقوله : { حقه } مفسر في المؤتى ، مجمل في المقدار ; إنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال : وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة ، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن ، وفي سورة البقرة من هذا التأليف ، وثبت أن المراد بذلك هاهنا الصدقة المفروضة .

                                                                                                                                                                                                              وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه ، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها في قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } ، وفسرها هاهنا ; فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر ; وهذه الآية خاصة في مخرجات الأرض مجملة في القدر ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم ، فقال : { فيما سقت السماء العشر ، وما سقي بنضح أو دالية نصف العشر } ; فكان هذا بيانا لمقدار الحق المجمل في هذه الآية . [ ص: 283 ]

                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة } . خرجه مسلم وغيره ، فكان هذا بيانا للمقدار الذي يؤخذ منه الحق ، والذي يسمى في ألسنة العلماء نصابا .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا متباينا قديما وحديثا ; فروي عن مالك وأصحابه : أن الزكاة في كل مقتات لا قول له سواه . وقد أوردناه في كتب الفقه وشرحناه ، وبه قال الشافعي .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : تجب في كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر ، وبه قال عبد الملك بن الماجشون في أصول الثمار دون البقول .

                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد أقوالا ; أظهرها أن الزكاة تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق ، فأوجبها في اللوز ; لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود ، معولا على قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة } ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الموسق ، وبين القدر الذي يجب إخراج الحق منه .

                                                                                                                                                                                                              وتعلق الشافعي بالقوت ; وذلك لأن التوسيق إنما يكون في المقتات غالبا دائما . وأما الخضر فأمرها نادر .

                                                                                                                                                                                                              وأما المالكية { فتعلقت بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من خضر المدينة صدقة } .

                                                                                                                                                                                                              وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق ، وقال : إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتا كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله : { فيما سقت السماء العشر } : وقد أشرنا في مسائل الخلاف إلى مسالك النظر فيها في كتاب الإنصاف والتخليص . وقد آن تحديد النظر فيها كما يلزم كل مجتهد . [ ص: 284 ]

                                                                                                                                                                                                              فالذي لاح بعد التردد في مسالكه أن الله سبحانه لما ذكر الإنسان بنعمه في المأكولات التي هي قوام الأبدان وأصل اللذات في الإنسان ، عليها تنبني الحياة ، وبها يتم طيب المعيشة عدد أصولها تنبيها على توابعها ، فذكر منها خمسة : الكرم ، والنخل ، والزرع ، والزيتون ، والرمان . فالكرم والنخل : يؤكل في حالين فاكهة وقوتا .

                                                                                                                                                                                                              والزرع يؤكل في نوعين : فاكهة وقوتا . والزيت : يؤكل قوتا واستصباحا . والرمان : يؤكل فاكهة محضة . وما لم يذكر مما يؤكل لا يخرج عن هذه الأقسام الخمسة .

                                                                                                                                                                                                              فقال تعالى : هذه نعمتي فكلوها طيبة شرعا بالحل طيبة حسا باللذة ، وآتوا الحق منها يوم الحصاد ، وكان ذلك بيانا لوقت الإخراج ، وجعل كما أشرنا إليه الحق الواجب مختلفا بكثرة المؤنة وقلتها ، فما كان خفيف المؤنة قد تولى الله سقيه ففيه العشر ، وما عظمت مؤنته بالسقي الذي هو أصل الإتيان ففيه نصف العشر .

                                                                                                                                                                                                              فأما قول أحمد : إنه فيما يوسق لقوله صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة } ، فضعيف ; لأن الذي يقتضي ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في التمر والحب . فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام . وأما التعليق بالقوت فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه ; وإنما تكون المعاني موجبة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب القياس .

                                                                                                                                                                                                              وكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة ، وأوجب الحق منها كلها فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل ، وفيما تنوع جنسه كالزرع ، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر إلى استيفاء النعم في الظلم .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم ، فأما في الخضر فلا بقاء لها ; ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها ، وإنما أخذت من يابسها .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه ، باليبس ، وانتهاء اليابس والطيب انتهاء الأخضر ; ولذلك إذا كان الرطب لا يثمر ، والعنب لا يتزبب تؤخذ الزكاة [ ص: 285 ] منهما على حالهما ، ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلا في اللذة وركنا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة . ألا تراه وصف جمالها ولذتها ، فقال : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } فذكر النخل أصلا في المقتات ، والرمان أصلا في الخضراوات .

                                                                                                                                                                                                              أولا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله : { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا } .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فقد قال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } . والذي يحصد الزرع .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : جهلتم ; بل هو عام في كل نبت في الأرض . وأصل الحصاد إذهاب الشيء عن موضعه الذي هو فيه ; قال تعالى : { منها قائم وحصيد } . وقال : { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } . وقال : { فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } . وفي الحديث : { وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : هذا مجاز ; وأصله في الزرع .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا كله حقيقة ؟ وأصلها الذهاب .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : أليس يقال جداد النخل ، وحصاد الزرع ، جذاذ البقل ؟

                                                                                                                                                                                                              قلنا : الاسم العام الحصاد ; وهذه خواص العام على بعض متناولاته . وقد أجاب عنه بعض العلماء بأنه ذكر الحصاد فيما يحصد دليلا على الجداد فيما يجد ; لأن أحدهما يكفي عن الآخر ، ولكن النبات كان أصلا لقوله : فأنبتنا به جنات [ فجعلها قسما ] [ ص: 286 ] وحب الحصيد ، فجعله قسما آخر ; فلما عادل الجميع اكتفى بذكره عن ذكر غيره .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : كذلك عول علماؤنا . وتحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : لو أخذها لنقل .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : وأي حاجة إلى نقله ، والقرآن يكفي عنه .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : الآية منسوخة بأنها مكية و [ آية ] الزكاة مدنية .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : قد قال مالك : إن المراد به الزكاة المفروضة . وتحقيقه : في نكتة بديعة ; وهي أن القول في أنها مكية أو مدنية يطول . فهبكم أنها مكية ; إن الله أوجب الزكاة بها إيجابا مجملا فتعين فرض اعتقادها ، ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت ، فلم تكن بمكة حتى تمهد الإسلام بالمدينة ; فوقع البيان ، فتعين الامتثال ، وهذا لا يفقهه إلا العلماء بالأصول .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : قول النبي صلى الله عليه وسلم : { فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر } كلام جاء لبيان تفصيل قدر الواجب بحال الموجب فيه ، وليس القصد منه العموم حتى يقع التعويل عليه في استعمام ما سقت السماء .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا هو كلام إمام الحرمين ، وهو من مذهباته التي بنى عليها كتاب البرهان ، وظن أنها لم تدرك في غابر الأزمان ، وليس لها في الدلائل مكان .

                                                                                                                                                                                                              نحن نقول : إن الحديث جاء للعموم في كل مسقي ، ولتفصيل قدر الواجب باختلاف حال الموجب فيه ، ولا يتعارض ذلك ; فيمتنع اجتماعه ، وقد مهدناه في أصول الفقه .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فقد خصصتم الحديث في المأكولات من المقتات ، فنحن نخصه في المأكولات أيضا . [ ص: 287 ]

                                                                                                                                                                                                              قلنا : نحن خصصناه في المأكولات من المقتات بدليل الإجماع ، ولا دليل لكم على تخصيصه في المقتات ; فإن أعادوا لما تقدم من أقوالهم أعدنا ما سبق عليها من الأجوبة .

                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة :

                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : لا زكاة في الزيتون في أحد قوليه ; قال : لأنه يؤكل إداما ، وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه .

                                                                                                                                                                                                              قلنا له : الزكاة تجب عندنا في التين ، فلا قول لك في ذلك ، وأي فرق بين التين والزبيب ، والزيتون قوت يدخر ذاته ويدخر زيته ; فلا كلام عليه .

                                                                                                                                                                                                              المسألة العاشرة :

                                                                                                                                                                                                              قال مالك في أظهر قوليه : إنما تكون الزكاة فيما يقتات في حال الاختيار دون ما يقتات به في حال الضرورة ، فلا زكاة في القطاني ، وبه قال الحسن والشعبي وابن سيرين وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والثوري وابن المبارك ويحيى بن آدم وأبو عبيد ، ولذلك اختلف قوله في التين ، فكان لا يوجب فيه الزكاة ، لأنه لا يدريه ، فإذا أخبر عنه ورأى موقعه في بلاده أوجب فيه الزكاة ; وهذا بناء على أصل من أصول الفقه ; وهو أن كلام الله تعالى إذا ورد ، هل يحمل على العموم المطلق أو الغالب من المتناول فيه ؟ والصحيح حمله : على العموم المطلق حسبما بيناه في موضعه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية