الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ( 120 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " ، إن تنالوا ، أيها المؤمنون ، سرورا بظهوركم على عدوكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم يسؤهم . وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدو لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها . كما : -

7705 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرهم [ ص: 156 ] ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به . فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته ، وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة .

7706 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " ، قال : هم المنافقون ، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم . وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرهم ذلك وأعجبوا به . قال الله عز وجل : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط " .

7707 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " إن تمسسكم حسنة تسؤهم " ، قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا .

وأما قوله : " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصبروا ، أيها المؤمنون ، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه : من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم "وتتقوا " ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله " لا يضركم كيدهم شيئا " ، أي : كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم .

ويعني ب "كيدهم " ، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق . [ ص: 157 ]

قال أبو جعفر : واختلف القرأة في قراءة قوله : " لا يضركم " .

فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين : ( لا يضركم ) مخففة بكسر "الضاد " ، من قول القائل : "ضارني فلان فهو يضيرني ضيرا " . وقد حكي سماعا من العرب : "ما ينفعني ولا يضورني " ، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : ( لا يضركم كيدهم شيئا ) ، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به " .

وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة : ( لا يضركم كيدهم شيئا ) بضم "الضاد " وتشديد "الراء " ، من قول القائل : ضرني فلان فهو يضرني ضرا " .

وأما الرفع في قوله : " لا يضركم " ، فمن وجهين .

أحدهما : على إتباع "الراء " في حركتها - إذ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها - أقرب حركات الحروف التي قبلها . وذلك حركة "الضاد " وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : "مد يا هذا " .

والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون "لا " بمعنى "ليس " ، وتكون "الفاء " التي هي جواب الجزاء ، متروكة لعلم السامع بموضعها .

وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا ، فليس يضركم كيدهم شيئا - ثم تركت "الفاء " من قوله : " لا يضركم كيدهم " ، ووجهت "لا " إلى معنى "ليس " ، كما قال الشاعر :

فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري ، لا إخالك راضيا [ ص: 158 ]

ولو كانت "الراء " محركة إلى النصب والخفض ، كان جائزا ، كما قيل : "مد يا هذا ، ومد .

وقوله : " إن الله بما يعملون محيط " ، يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصد عن سبيله ، والعداوة لأهل دينه ، وغير ذلك من معاصي الله "محيط " بجميعه ، حافظ له ، لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ، ويذيقهم عقوبته عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية