الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1027 - مسألة : ولا يحل شيء مما ذكرنا لمن كان في طريق بغي على المسلمين أو ممتنعا من حق ، بل كل ذلك حرام عليه ، فإن لم يجد ما يأكل فليتب مما هو فيه وليمسك عن البغي وليأكل حينئذ وليشرب مما اضطر إليه حلالا له فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى فاسق ، آكل حرام . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } وقوله : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } فإنما أباح تعالى ما حرمه بالضرورة من لم يتجانف لإثم ، ومن لم يكن باغيا ولا عاديا - : وهذا قول كل من نعلمه من العلماء إلا المالكيين ، فإنهم قالوا فيمن قطع الطريق على المسلمين ، وانتظر رفاقهم من المحاربين ، وحاصر قراهم ومدنهم من الباغين لسفك دماء المسلمين ، ويستبيح أموالهم وفروج المسلمات ظلما وعدوانا ، فلم يجد مأكلا إلا الخنازير والميتات - : أنه مباح له أكله ، فأعانوه على أعظم الظلم ، وأشد البغي والعدوان والعجب أنهم موهوا ههنا بقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 108 ] قال أبو محمد : وهذا من أقبح ما يكون من الإبهام وما أمرناه بقتل نفسه بل بما افترض الله تعالى عليه من التوبة ، فلينوها بقلبه ، وليمسك عن البغي والامتناع من الحق بيديه ، ثم يأكل ما اضطر إليه حلالا له ، وما سمعنا بقول أقبح من قولهم هذا أن لا يأمروه بالتوبة من البغي ، ويبيحوا له التقوي على الإفساد في الأرض بأكل الميتة والخنزير نبرأ إلى الله من هذا القول - : روينا عن مجاهد { غير باغ ولا عاد } غير باغ على المسلمين ، ولا عاد عليهم - قال مجاهد : ومن يخرج لقطع الطريق ، أو في معصية الله تعالى ، فاضطر إلى الميتة لم تحل له ، إنما تحل لمن خرج في سبيل الله تعالى ، فإن اضطر إليها فليأكل . وعن سعيد بن جبير { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } قال : إذا خرج في سبيل من سبل الله تعالى فاضطر إلى الميتة أكل ، وإن خرج إلى قطع الطريق فلا رخصة له .

                                                                                                                                                                                          وموهوا بما رويناه من طريق سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس أن معنى الباغي ، والعادي ، إنما هو في الأكل . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه ثلاثة - : أولها : أنه لا حجة في قول أحد في تخصيص القرآن دون رسول الله . والثاني : أنه إسناد فاسد لا يصح ، لأن سلمة بن سابور ضعيف ، وعطية مجهول . والثالث : أنه لو صح لكان موافقا لقولنا لا لقولهم ، لأن الباغي في الأكل ، والعادي فيه : هو من أكله فيما لم يبح له ، وآكله في البغي على المسلمين باغ في الأكل وعاد فيه ، وهكذا نقول . وما قال قط أحد نعلمه قبلهم : أن من خرج مفسدا في الأرض فاضطر إلى الميتة فله أكلها مصرا على إفساده متقويا على ظلم المسلمين ، ونعوذ بالله من الخذلان . وقال قائلون : لا يحل له أن يأكل من ذلك إلا ما يمسك رمقه ؟ قال علي : وهذا خطأ ; لأن الله تعالى استثنى المضطر من التحريم ، فهو بلا شك [ ص: 109 ] غير داخل في التحريم ، وإذ هو غير داخل فيه فكل ذلك مباح له جملة .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية