الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6366 [ ص: 531 ] 16 - باب: ذوي الأرحام

                                                                                                                                                                                                                              6747 - حدثني إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لأبي أسامة: حدثكم إدريس: حدثنا طلحة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولكل جعلنا موالي [النساء: 33] (والذين عاقدت أيمانكم) قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه; للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت جعلنا موالي [النساء: 33] قال: نسختها: "والذين عاقدت أيمانكم". [انظر: 2292 - فتح: 12 \ 29].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ولكل جعلنا موالي [النساء: 33] (والذين عاقدت أيمانكم) قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه; للإخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي [النساء: 33] نسختها: (والذين عاقدت أيمانكم).

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              كذا وقع هذا هنا، والصواب أن المنسوخة (والذين عاقدت أيمانكم) [النساء: 33] كما (نبه عليه) الطبري في رواية عن ابن عباس ، كما نبه عليه ابن بطال وغيره، وأنه لما نزلت كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للإخوة المذكورة، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي [النساء: 33] نسختها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 532 ] وجمهور السلف على أن الناسخ لهذه الآية قوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [الأنفال: 75] روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن ، وهو الذي أثبته أبو عبيد في "ناسخه ومنسوخه".

                                                                                                                                                                                                                              وفيها قول آخر روي عن الزهري ، عن ابن المسيب قال: أمر الله تعالى الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوهم في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ويرد الميراث إلى ذي الرحم والعصبة، وقالت طائفة: قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم [النساء: 33] محكمة، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرفادة، وما أشبه ذلك دون الميراث (ويوصى لهم) ذكره أيضا الطبري ، عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد والسدي ، وسلف طرف من ذلك في التفسير.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف السلف فمن بعدهم في توريث ذوي الأرحام، وهم الذين لا سهم لهم في الكتاب والسنة من قرابة الميت، وليس بعصبة وهم عشرة أصناف: أبو الأم، وكل جد وجدة سافلين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم، والعم للأم، وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات، والمدلون بهم من الأولاد.

                                                                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: إذا ما لم يكن للميت وارث له فرض مسمى، فماله لموالي العتاقة الذين أعتقوه، فإن لم يكن فبيت المال، ولا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، روي هذا عن الصديق وزيد بن ثابت [ ص: 533 ] وابن عمر ، ورواية عن علي ، وهو قول أهل المدينة : الزهري وأبي الزناد وربيعة ومالك . وروي عن مكحول والأوزاعي ، وبه قال الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف زيد ومالك في أم أبي الأب، فورثها زيد ولم يورثها مالك ، وكان عمر وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبو الدرداء (وأبو ثور) يورثون ذوي الأرحام، ولا يعطون الولاء مع الرحم شيئا.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في ذلك عن علي ، كذا في كتاب ابن بطال ، وهي مروية عنه من طريق الحسن بن عمارة -أحد الهلكى- عن الحكم ، ولم يسمع من علي شيئا، والرواية عن عمر رواها زياد بن أبيه وزياد والحسن وبكر بن عبد الله وإبراهيم ، ولم يسمعوا منه، وروى عبد الله بن شداد والزهري أنه - عليه السلام - قال: "الخالة والدة" وهذا مرسل، وبتوريثهم قال ابن أبي ليلى والنخعي وعطاء وجماعة من التابعين، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وإليه ذهب سائر الصحابة غير زيد كلهم من كانوا، وبذلك قال فقهاء الأمصار - العراق والكوفة والبصرة - وجماعة من العلماء في سائر الآفاق، واحتجوا بقوله تعالى [ ص: 534 ] وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [الأنفال: 75] قالوا: وقد اجتمع فيه سببان: القرابة والإسلام، فهو أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام، وقاسوا ابنة الابن على الجدة التي وردت فيها السنة; لأن كل واحد يدلي بأبي وارثه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث المقدام بن معدي كرب : "الخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين. وخولف. قال البيهقي : كان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: ليس فيه حديث قوي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الترمذي محسنا عن عمر مرفوعا: "الخال وارث من لا وارث له" وأخرجه النسائي من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه عبد الرزاق أيضا، عن ابن جريج ، عن عمرو بن مسلم ، حدثنا طاوس عنها.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه الدارقطني من حديث أبي عاصم موقوفا، قال: قيل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكت فقال له الشاذكوني: حدثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 535 ] ورفعه أيضا عن ابن جريج ، عبد الرزاق وروح ، ومن حديث ليث عن ابن المنكدر ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا مثله، وعند عبد الرزاق ، عن إبراهيم بن محمد ، عن داود بن الحصين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، مثله، وعند عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورث الدحداحة .

                                                                                                                                                                                                                              واسع أثبت أحمد صحبته، قال الشافعي : وثابت بن الدحداحة توفي يوم أحد قبل أن تنزل الفرائض، وحجة من لم يورثهم أن الله تعالى قد نسخ الموارثة بالحلف والمؤاخاة والهجرة، بقوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [الأنفال: 75].

                                                                                                                                                                                                                              وإنما عنى بهذه الآية من ذوي الأرحام من ذكرهم في كتابه من أهل الفرائض المسماة، لا جميع ذوي الأرحام; لأن هذه الآية الكريمة مجملة جامعة، والظاهر لكل ذي رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة، والمفسر يقضي على المجمل ويبينه، فلا يرث من ذوي الأرحام إلا من ذكر الله في آية المواريث، قالوا: وقد جعل الشارع الولاء نسبا ثانيا أقامه مقام العصبة، فقال: "الولاء لمن أعتق" وقال: "الولاء لحمة كلحمة النسب" ونهى عن بيع الولاء وعن هبته .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 536 ] وأجمعت الأمة أن المولى المعتق يعقل عن مولاه الجنايات التي تحملها العاقلة، فأقاموه مقام العصبة، فثبت بذلك أن حكم المولى حكم ابن العم والرجل من العشيرة، فكان أحق بالمال من ذوي الأرحام الذين ليسوا بعصبة ولا أصحاب فرائض; لأنه - عليه السلام - قال: "من ترك مالا فلعصبته" .

                                                                                                                                                                                                                              وأجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفروض فهو للعصبة، وأن من لا سهم له في كتاب الله من ذوي الأرحام لا ميراث له مع العصبة. ثم حكموا للمولى بحكم العصبة، فثبت بذلك أن ما فضل عن أصحاب الفروض يكون له; لأنه عصبة.

                                                                                                                                                                                                                              وأجمعوا أن الميت إذا ترك مولاه الذي أعتقه ولم يخلف ذا رحم أن الميراث له، فأقاموه مقام العصبة فصار هذا أصلا متفقا عليه.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في توريث من لا سهم له في كتاب الله، وليس بعصبة من ذوي الأرحام ، فيكتفى بما أجمع عليه مما اختلف فيه، وفي "صحيح الحاكم " من حديث عبد الله بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار، فلقيه رجل فقال: يا رسول الله رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما، فرفع رأسه إلى السماء فقال: "اللهم رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما" ثم قال: "أين السائل" قال: ها أنا ذا، قال: "لا ميراث لهما" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، فإن عبد الله بن جعفر المديني وإن شهد عليه ابنه بسوء الحفظ، فليس ممن يترك حديثه، وقد صح بشواهده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 537 ] قلت: ولا أعلم أحدا احتج بعبد الله هذا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مصنف عبد الرزاق ": عن معمر ، عن زيد بن أسلم وصفوان بن سليم ، نحوه، وروى يزيد بن هارون ، عن محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم، ومحمد بن عبد الرحيم بن المجبر ، عن زيد وعطاء بن يسار قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن رجلا هلك وترك عمة وخالة، وانطلق يقسم ميراثه، فتبعه رسول الله على حمار فقال: "يا رب رجل ترك عمة وخالة" ثم قال: "لا أرى ينزل علي شيء لا شيء لهما" .

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي داود : ركب - عليه السلام - إلى قباء يستخبر الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما، ولكن يرثون للرحم . وأسنده مسعدة ابن اليسع -وهو متروك- عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في أنه لا شيء لهما، والصواب الإرسال.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه: حاصل ما حكيناه ذكر قولين: البداءة بالولاء بعد الفروض ثم ببيت المال دون ذوي الأرحام، والبداءة بالرحم على الولاء، وحاصل ما حكاه ابن التين ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 538 ] الأول: وهو قول مالك والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: وهو قول جماعة من التابعين.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: قول أهل العراق إلا قليل منهم، والحسن يورث مولى العتاقة دون ذوي الأرحام، وهو راجع إلى ما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وكل من ورث الرحم الذي لم يسم له فريضة لا يورثه مع رحم سمي له فريضة، ولو قلت: وهو أولى برد الفضل، وإلا فيورثون مع من لم يسم لهم فريضة جميع المال، وإن كان واحدا ذكرا كان أو أنثى فترث رحمه (قربت) أو بعدت لا يختلفون في ذلك، واحتج من لم يورث بأن كل أنثى لم ترث مع أختها لم ترث إذا انفردت أصله بنت المولى; ولأن المولى المنعم مقدم على ذوي الأرحام، دل على أنه لا حق لهم في الإرث; لأن الولاء لا يتقدم على النسب، وهذا ظاهر على رأي أبي حنيفة وأصحابه لا على رأي الصديق وابن مسعود ; لأنهما يقدمان ذوي الأرحام على مولى العتاقة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية