الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب شهادة القاذف قال الله عز وجل : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال أبو بكر : حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه به بثلاثة أحكام :

أحدها جلد ثمانين ، والثاني بطلان الشهادة ، والثالث : الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب .

واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا ، فقال قائلون : " قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه " وهو قول الليث بن سعد والشافعي . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك : " شهادته مقبولة ما لم يحد " وهذا يقتضي من قولهم أنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد ؛ لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته ؛ إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والاعتقاد ، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه ، وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به :

أحدهما قوله ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية ، فكان تقديره : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون [ ص: 116 ] فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف ، فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته .

وأيضا فلو كانت الشهادة تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه الآخر : أن المعقول من هذا اللفظ أنه لا تبطل شهادته ما دامت إقامة البينة على زناه ممكنة ، ألا ترى أنه لو قال رجل لامرأته " أنت طالق إن كلمت فلانا ثم لم تدخلي الدار " أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل ؟ وكذلك لو قال : " أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار " كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله " وأنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار " وبين قوله : " إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها " وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك .

وكان قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما : الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به ، فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه ، فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف - ولذلك بطلت - شهادته فواجب أن لا تقبل بعد ذلك بينته على الزنا ؛ إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا ، وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته ؛ إذ لم يحكم بكذبه ؛ لأن من سمعناه يخبر بخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته ، ألا ترى أن قاذف امرأته بالزنا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه ؟ ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد [ ص: 117 ] ما لاعن بين الزوجين : " الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ " فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة ، وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه .

ويدل عليه قوله عز وجل : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء ، ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف ، فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام ؛ إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية .

فإن قيل : لما قال تعالى : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتي بالشهداء .

قيل له : معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها وقذفتها ؛ لأنه قال تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم إلى قوله : لولا إذ سمعتموه وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك ، وقاذفوها أيضا لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت .

ولم يدع أحد أنهم أنه رأى ذلك ، ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه والنكير عليه . وأيضا لما قال في نسق التلاوة : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة ، علمنا أنه لم يرد بقوله : وقالوا هذا إفك مبين إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف ، وأن معناه : وقالوا هذا إفك مبين ؛ إذ سمعوه ولم يأت القاذف بالشهود . والشافعي يزعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم ، فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة ؛ لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه ، وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف . ويدل على صحة قولنا من جهة السنة ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف ، فأخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد . ويدل عليه أيضا حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيجلد هلال [ ص: 118 ] وتبطل شهادته في المسلمين فأخبر أن بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به ، ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته .

واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف والثوري والحسن بن صالح : " لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب " . وقال مالك وعثمان البتي والليث والشافعي تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب " . وقال الأوزاعي : " لا تقبل شهادة محدود في الإسلام " . قال أبو بكر : روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم استثنى فقال : إلا الذين تابوا فتاب عليهم من الفسق ، وأما الشهادة فلا تجوز .

حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا حجاج ، وقد ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا ابن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال : ثم قال : إلا الذين تابوا قال : " فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة " . قال أبو بكر : ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روي عنه في الحديث الأول ، بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب ، والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب . وروي عن شريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا : " لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله " . وقال إبراهيم : " رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا " .

وروي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري : " أن شهادته تقبل إذا تاب " . وروي عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة : " إن تبت قبلت شهادتك " ، وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان : عن سعيد بن المسيب ، ثم شك وقال : هو عمر بن قيس ، أن عمر قال لأبي بكرة : " إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب " ، فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه ، فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول . ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة ، وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف . وقد روي عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة [ ص: 119 ] بعد التوبة ، فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ، ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة بعدما جلده ، وجائز أن يكون قال قبل الجلد . قال أبو بكر : وما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما ، والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة ، والدليل عليه قوله تعالى : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فكانت المرأة مستثناة من المنجين ؛ لأنها تليهم ، ولو قال رجل لفلان : " علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم " كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة ، وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه ويدل عليه أيضا أن قوله : فإن لم تكونوا دخلتم بهن في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء ؛ لأنه يليهن ، فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما ، وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها .

فإن قيل : قال الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إلى قوله : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور لكونه معطوفا بعضه على بعض ، وقال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ثم قال : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث ، فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه . قيل له : قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة ، وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى الجميع المذكور .

فإن قيل : إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في [ ص: 120 ] اللغة ، فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع ؟ قيل له : لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه أو إلى جميع المذكور ، وإذا كان كذلك ، وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد الاستثناء إليه بالاحتمال ؛ إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ، ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه .

فإن قيل : ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه ؟ إذ ليس اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع ، وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه . قيل له : هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تدافع بيننا فيه ، وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضي رفع الجميع ، فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضي صيغته رفع العموم ، وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء .

فإن قيل : لو قال رجل : عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله ، رجع الاستثناء إلى الجميع ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله ، فكان استثناؤه راجعا إلى جميع الأيمان ، ؛ إذ كانت معطوفة بعضها على بعض . قيل له : ليس هذا مما نحن في شيء ؛ لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي " إلا " و " غير " و " سوى " ونحو ذلك ؛ لأن قوله : " إن شاء الله " يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء ، والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأسا ، ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال : أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ؟ ولذلك جاز أن يكون قوله ( إن شاء الله ) راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ، ولم يجب مثله فيما وصفنا .

فإن قيل : فلو كان قال : ( أنت طالق وعبدي حر إلا أن يقدم فلان ) كان الاستثناء راجعا إلى الجميع ، فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله : إن شاء الله . قيل له : ليس ذلك على ما ظننت ، من قبل أن قوله : ( إلا أن يقدم فلان ) وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط [ ص: 121 ] كقوله : ( إن لم يقدم فلان ) ، وحكم الشرط أن يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفا على بعض ، وذلك لأن الشرط يشبه الاستثناء الذي هو مشيئة الله عز وجل من حيث كان وجوده عاملا في رفع الكلام حتى لا يثبت منه شيء ، ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع شيء ؟ وجائز أن لا يوجد الشرط أبدا فيبطل حكم الكلام رأسا ولا يثبت من الجزاء شيء ، فلذلك جاز رجوع الشرط إلى جميع المذكور كما جاز رجوع الاستثناء بمشيئة الله تعالى .

قال أبو بكر : وقوله : ( إلا أن يقدم فلان ) هو شرط ، وإن دخل عليه حرف الاستثناء ، وأما الاستثناء المحض الذي هو قوله : إلا الذين تابوا و إلا آل لوط وما جرى مجراه ، فإنه لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء ، ألا ترى أن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا بد من أن يكون حكمه ثابتا في وقت ما وأن من رد الاستثناء إليه فإنما يرفع حكمه في بعض الأوقات بعد ثبات حكمه في بعضها ؟ وكذلك قوله : إلا آل لوط غير جائز أن يكون رافعا لحكم النجاة عن الأولين ، وإنما عمل في بعض ما انتظمه لفظ العموم . ويستدل بما ذكرنا على أن حقيقة هذا الضرب من الاستثناء رجوعه إلى ما يليه دون ما تقدمه وأن لا يرد إلى ما تقدمه إلا بدلالة وذلك ؛ لأنه لما استحال دخول هذا الاستثناء لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون مستعملا في البعض دون الكل ، فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه هو المتيقن دون غيره ، بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه مقصورا على الأقل المتيقن دون اعتبار لفظ العموم ، كذلك الاستثناء . ولما جاز دخول شرط مشيئة الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأسا وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة ويدل على أن الاستثناء في قوله : إلا الذين تابوا مقصور على ما يليه دون ما تقدمه ، أن قوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا كل واحد منهما أمر ، وقوله : وأولئك هم الفاسقون خبر ، والاستثناء داخل عليه ، فوجب أن يكون موقوفا عليه دون رجوعه إلى الأمر وذلك ؛ لأن ( الواو ) في قوله : وأولئك هم الفاسقون للاستقبال ؛ إذ غير جائز أن يكون للجميع ؛ لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحد إذا كان أمرا ، ونظيره قول القائل : ( أعط زيدا درهما ، ولا تدخل الدار وفلان خارج إن شاء الله ) إن مفهوم هذا الكلام رجوع الاستثناء [ ص: 122 ] إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر ، كذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء في الآية لا فرق بينهما . فإن قيل : قال الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ثم قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمر ، وقوله : ذلك لهم خزي في الدنيا خبر ، فرجع الاستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر . قيل له : إنما جاز ذلك ؛ لأن قوله : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر ، فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الاستثناء إلى الجميع ، ولما كان قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر ، وجب أن لا يرجع إلى الجميع ؛ ومع ذلك فإنا نقول متى اختلفت صيغ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة ، فإن قامت الدلالة جاز رده إليه ، وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مبقى على حكمه في الأصل .

فإن قيل : لما كانت ( الواو ) للجمع ، ثم قال : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر ، فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر ؛ إذ لم يكن لتقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب ، فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا ، فليس رجوع الاستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد ، ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة .

قيل له : إن ( الواو ) قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف ، وهي في قوله : وأولئك هم الفاسقون للاستئناف ؛ لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا ، وذلك في نحو قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى آخر الآية ؛ لأن الجميع أمر ، كأنه قال : فاغسلوا هذه الأعضاء ؛ لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر . وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر ، ولا يجوز أن ينتظمهما جملة واحدة ؛ فلذلك كانت ( الواو ) للاستئناف ؛ إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر ، وقوله : إنما جزاء الذين [ ص: 123 ] يحاربون الله ورسوله الاستثناء فيه عائد إلى الأمر بالقتل وما ذكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه ؛ لأن قوله : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم لا يجوز أن يكون عائدا إلى قوله : ولهم في الآخرة عذاب عظيم لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها ، فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحد دون عذاب الآخرة . ودليل آخر ، وهو أن قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا يخلو من أن يكون بطلان هذه الشهادة متعلقا بالفسق أو يكون حكما على حياله تقتضي الآية تأبيده ، فلما كان حمله على بطلانها بلزوم سمة الفسق يبطل فائدة ذكره ؛ إذ كان ذكر التفسيق مقتضيا لبطلانها إلا بزواله والتوبة منه ، وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسمة الفسق ولا بترك التوبة . وأيضا فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة ، وفي حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه ، وذلك خلاف مقتضى اللفظ . وأيضا فإن حمله على ما ادعى يوجب أن يكون الفسق المذكور في الآية علة لما ذكر من إبطال الشهادة ، فيكون تقديره : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ؛ لأنهم فاسقون ؛ وفي ذلك إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى مجاز لا دلالة عليه ؛ لأن حكم اللفظ أن يكون قائما بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يجعل علة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف عليه ، فثبت بذلك أن بطلان الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية غير موقوف على التوبة .

فإن قيل رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى منه إلى الفسق ؛ لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة ؛ إذ كان جائزا أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة ، فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل ولا سمع ؛ إذ كانت سمة الفسق ذما وعقوبة ، وغير جائز أن يستحق التائب الذم ، وليس كذلك بطلان الشهادة ، ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائزي الشهادة لا على وجه الذم والتعنيف لكن عبادة ؟ فكان رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق . قيل له : إن التوبة المذكورة في هذه الآية إنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه ؛ لأنه به استحق سمة الفسق ، وقد كان جائزا أن تبقى سمة الفسق عليه إذا تاب من سائر الذنوب ، ولم يكذب نفسه ، فأخبر الله تعالى بزوال سمة الفسق عنه إذا أكذب نفسه . ووجه آخر ، وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد [ ص: 124 ] به ولم يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت مقبولة عند الله ؛ لأنا لا نقف على حقيقة توبته ، فكان جائزا أن يتعبدنا بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة ولا نتولاه على حسب ما نتولى سائر أهل التوبة ، فلما كان ذلك جائزا ورود العبادة به أفادتنا الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته .

فإن قيل : لما اتفقنا على أن الذمي المحدود في القذف تقبل شهادته إذا أسلم وتاب ، دل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف :

أحدهما : أنه قد ثبت أن الاستثناء راجع إلى بطلان الشهادة ؛ إذ كان الذمي مرادا بالآية ، وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة .

والثاني : أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه . قيل له : ليس الأمر فيه على ما ظننت وذلك ؛ لأن الذمي لم يدخل في الآية ، وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جلد وحكم بفسقه من جهة القذف ، والذمي قد تقدمت له سمة الفسق ، فلما لم يستحق هذه السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالاتفاق ، ولم يحصل الاتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفار إذا أسلموا .

فإن قيل : فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مرادا بالآية ؛ إذ لم يستحدث سمة الفسق بوقوع الحد به .

قيل له : هو كذلك ، وإنما دخل في حكمها بالمعنى لا باللفظ ، وإنما أجاز أصحابنا شهادة الذمي المحدود في القذف بعد إسلامه وتوبته من قبل أن الحد في القذف يبطل العدالة من وجهين :

أحدهما : عدالة الإسلام ، والآخر عدالة الفعل ؛ والذمي لم يكن مسلما حين حد فيكون وقوع الحد به مبطلا لعدالة إسلامه ، وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل ، فإذا أسلم فأحدث توبة فقد حصلت له عدالة من جهة الإسلام ومن طريق الفعل أيضا بالتوبة ؛ فلذلك قبلت شهادته . وأما المسلم فإن الحد قد أسقط عدالته من طريق الدين ولم يستحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين ؛ إذ لم يستحدث دينا بتوبته ، وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل ؛ فلذلك لم تقبل شهادته ؛ إذ كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعا .

فإن قيل : لما اتفقنا على قبول شهادته إذا تاب قبل وقوع الحد به دل ذلك على أن الاستثناء راجع إلى الشهادة كرجوعه إلى التفسيق ، فوجب على هذا أن يكون مقتضيا لقبولها بعد الحد كهو قبله .

قيل له : إن شهادته لم تبطل بالقذف قبل وقوع الحد به ولا وجب الحكم [ ص: 125 ] بتفسيقه لما بيناه في المسألة المتقدمة ، ولو لم يتب وأقام على قذفه كانت شهادته مقبولة ، وإنما بطلان الشهادة ولزومه سمة الفسق مرتب على وقوع الحد به ، فالاستثناء إنما رفع عنه سمة الفسق التي لزمته بعد وقوع الحد فأما قبل ذلك فغير محتاج إلى الاستثناء في الشهادة ولا في الحكم بالتفسيق . ودليل آخر على صحة قولنا ، وهو أنا قد اتفقنا على أن التوبة لا تسقط الحد ، ولم يرجع الاستثناء إليه ، فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف ، فمن حيث لم يرجع الاستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة ، وأما التفسيق فهو خبر ليس بأمر فلا يلزم على ما وصفنا .

ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد حق لآدمي فكذلك بطلان الشهادة حق لآدمي ؛ ألا ترى أن الشهادات إنما هي حق للمشهود له وبمطالبته يصح أداؤها وإقامتها كما تصح إقامة حد القذف بمطالبة المقذوف ؟ فوجب أن يكونا سواء في أن التوبة لا ترفعهما ، وأما لزوم سمة الفسق فلا حق فيه لأحد فكان الاستثناء راجعا إليه ومقصورا عليه .

فإن قيل : إذا كان التائب من الكفر مقبول الشهادة فالتائب من القذف أحرى قيل له : التائب من الكفر يزول عنه القتل ولا يزول عن التائب من القذف حد القذف ، فكما جاز أن تزيل التوبة من الكفر القتل عن الكافر جاز أن تقبل توبته ولا يلزم عليه التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد عنه .

وأيضا فإن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام ، ألا ترى أن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد والقاذف بالزنا يجب عليه الحد ؟ فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم .

فإن قيل : فإذا تاب وأصلح فهو عدل ولي لله تعالى ، وقد كان بطلان شهادته بديا على وجه العقوبة والتوبة تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية ، فغير جائز بطلان شهادته بعد توبته .

قيل له : لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على وجه العقوبة بل على جهة المحنة ، كما لا تكون إقامة الحد عليه بعد التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء على وجه المصلحة . ألا ترى أن العبد قد يكون عدلا مرضيا عند الله وليا لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد لولده ومن جرى مجراه ؟ فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفا على الفسق وعلى وجه العقوبة حتى يعارض فيه بما ذكرت .

ومما يدل على أن توبة القاذف لا توجب جواز شهادته أن شهادته إنما بطلت بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه [ ص: 126 ] لما قد بينا فيما سلف ، فلما تعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجر إجازتها إلا بحكم الحاكم بجوازها ؛ لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يزل ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق والطلاق وسائر الحقوق ، فلما لم تكن توبته مما تصح الخصومة فيه ولا يحكم بها الحاكم لم يجز لنا إبطال ما قد ثبت بحكم الحاكم .

فإن قيل : فرقة اللعان والعنين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح ، فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان متعلقا بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم الحاكم بديا ببطلانها مقصورا على الحال التي لم تحدث فيها توبة ، كما أن الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن منهما فيها عقد مستقبل .

قيل له : لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم ، والتوبة ليست مما يحكم به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان شهادته ، ولكنه لو شهد القاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فحكم بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته .

فإن قيل : فلو أن رجلا زنى فحده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة ولم يكن حكم الحاكم مانعا من قبولها بعد التوبة قيل له : الزاني لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم لظهور فسقه ، فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند ظهور توبته وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقا ، وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف .

ويدل على ذلك من جهة السنة حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك ابن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين . وذكر الحديث ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها .

وقد روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف قال أبو بكر : ولم يستثن فيه وجود التوبة منه . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا حامد بن محمد قال : حدثنا شريح قال : حدثنا مروان عن يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 127 ] لا تجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور ولا خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر لأخيه ولا الصانع لأهل البيت ولا ظنين ولا قرابة ؛ فأبطل صلى الله عليه وسلم القول بإبطال شهادة المحدود ، فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد قذف أو غيره ؛ إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه ، ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف ، فهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب ؛ وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سمة الفسق كانت شهادته مقبولة ، والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحق به الحد من زنا أو سرقة أو شرب خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحد به ، فلما لم يتعلق بطلان شهادته بالحد كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتقبل شهاداتهم ، وأما المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحد به لأنه جائز أن يكون صادقا في قذفه ، وإنما بطلت شهادته بوقوع الحد به فلم تزل ذلك عنه بتوبته .

التالي السابق


الخدمات العلمية