الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) : [ ص: 85 ] لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ; ذكر حال من له عذر في تركه ، والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم ، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضئولة ، بحيث لا يمكنه الجهاد . والمريض من عرض له المرض ، أو كان زمنا ويدخل فيه العمى والعرج ، و ( الذين لا يجدون ما ينفقون ) هم الفقراء ، قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو ، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو ، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلا عليهم ، كان له في ذلك ثواب جزيل . فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار ، وهو في أول الجيش ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد عذرك " فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة . وكان ابن أم مكتوم أعمى ، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه ، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى ، فضربت فأمسكه بصدره . وقرأ : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله ، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سرا وجهرا خالصة لله من الغش ، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين ، داعية لهم بالنصر والتمكين . ففي سنن أبي داود : " لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا هم معكم فيه " قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " . وقرأ أبو حيوة : " إذا نصحوا الله ورسوله " بنصب الجلالة والمعطوف . ( ما على المحسنين من سبيل ) ، أي : من لائمة تناط بهم أو عقوبة . ولفظ ( المحسنين ) عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم ، وقيل : المحسنين هنا المعذورون الناصحون ، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس وأن المحسن هو المسلم ; لانتفاء جميع السبيل ، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل ، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة . وقال الكرماني : ( المحسنين ) هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم ، ثم أكد الرجاء فقال : ( والله غفور رحيم ) ، وقراءة ابن عباس : " والله لأهل الإساءة غفور رحيم " على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف . قيل : وقوله : ( ما على المحسنين من سبيل ) فيه نوع من أنواع البديع ، يسمى التمليح ، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر ، أو شعر نادر ، أو قصة مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل . ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه ، وهو يشرب الخمر :


اليوم خمر ويبدو في غد خبر والدهر من بين إنعام وإيئاس



( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) معطوف على ما قبله ، وهم مندرجون في قوله : ( ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ) ، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أفضى بهم الحال إلى المسألة ، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد ، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يفوتهم أجر الجهاد ، ويحتمل أن لا يندرجوا في قوله : ( ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ) ، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، وتكون النفقة عبارة عن الزاد ، لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه . وهذه نزلت في العرباض بن سارية . وقيل : في عبد الله بن مغفل . وقيل : في عائذ بن عمرو . وقيل : في أبي موسى الأشعري ورهطه . وقيل : في تسعة نفر من بطون شتى ، فهم البكاءون ، وهم : سالم بن عمير من بني عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار ، وسلمان بن صخر من بني المعلى ، [ ص: 86 ] وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائذ بن عمرو المزني . وقيل : عبد الله بن عمرو المزني . وقال مجاهد : البكاءون هم بنو بكر من مزينة . وقال الجمهور : نزلت في بني مقرن ، وكانوا ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم . ومعنى ( لتحملهم ) أي : على ظهر مركب ، ويحمل عليه أثاث المجاهد . قال معناه ابن عباس . وقال أنس بن مالك : لتحملهم بالزاد . وقال الحسن بن صالح : بالبغال . وروي أن سبعة من قبائل شتى ، قالوا : يا رسول الله ، قد ندبتنا إلى الخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك ، فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون .



وقرأ معقل بن هارون : ( لنحملهم ) بنون الجماعة . و " إذا " تقتضي جوابا . والأولى أن يكون ما يقرب منها ، وهو ( قلت ) ، ويكون قوله : ( تولوا ) جوابا لسؤال مقدر ;كأنه قيل : فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول ؟ قيل : تولوا وأعينهم تفيض . وقيل : جواب ( إذا تولوا ) ، و ( قلت ) جملة في موضع الحال من الكاف ، أي : إذا ما أتوك قائلا لا أجد ، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله : ( حصرت صدورهم ) قاله الزمخشري . أو على حذف حرف العطفة ؛ أي : وقلت ، قاله الجرجاني ، وقاله ابن عطية ، وقدره : فقلت ، بالفاء . ( وأعينهم تفيض ) جملة حالية . قال الزمخشري : فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله : ( قلت لا أجد ) استئنافا مثله ، يعني مثل ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين ؟ قلت : لا أجد ما أحملهم عليه ، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض ; قلت : نعم ، ويحسن . انتهى . ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب ، فكيف في كلام الله وهو فهم أعجمي ؟ وتقدم الكلام على نحو ( وأعينهم تفيض من الدمع ) في أوائل حزب ( لتجدن ) من سورة المائدة . وقال الزمخشري هنا : ( وأعينهم تفيض من الدمع ) كقولك : تفيض دمعا ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض . و " من " للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز . انتهى . ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بـ " من " ، وأيضا فإنه معرفة ، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة . وانتصب ( حزنا ) على المفعول له ، والعامل فيه ( تفيض ) . وقال أبو البقاء : أو مصدر في موضع الحال . و ( ألا يجدوا ) مفعول له أيضا ، والناصب له ( حزنا ) ، قال أبو البقاء : ويجوز أن يتعلق بـ ( تفيض ) . انتهى . ولا يجوز ذلك على إعرابه ( حزنا ) مفعولا له ، والعامل فيه ( تفيض ) ; لأن العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل . وقوله : ( ألا يجدوا ما ينفقون ) فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله : ( ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية