الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 93 - 94 ] ( الحجة الثامنة ) اليمين والنكول وصورته أن يطالب المطلوب باليمين الدافعة فينكل فيحلف الطالب ، ويستحق بالنكول واليمين فإن جهل المطلوب ردها فعلى الحاكم أن يعلمه بذلك ، ولا يقضي حتى يردها فإن نكل الطالب فلا شيء له ، وقاله الشافعي .

وقال أبو حنيفة وابن حنبل يقضي بالنكول ، ولا ترد اليمين على الطالب ، وقال أبو حنيفة إن كانت الدعوى في مال كرر عليه ثلاثا فإن لم يحلف لزمه الحق ، ولا ترد اليمين ، وإن كانت في عقد فلا يحكم بالنكول بل يحبس حتى يحلف أو يعترف ، وفي النكاح والطلاق والنسب وغيره لا مدخل لليمين فيه فلا نكول ، وقال ابن أبي ليلى يحبس في جميع ذلك حتى يحلف لنا وجوه :

( الأول ) قوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ، ولا يمين بعد يمين إلا ما ذكرناه غير أن ظاهره يقتضي يمينا بعد يمين ، وهو خلاف الإجماع فتعين حمله على يمين بعد رد يمين على حذف [ ص: 93 ] المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لأن اللفظ إذا ترك من وجه بقي حجة في الباقي .

( الثاني ) ما روي { أن الأنصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن اليهود قتلت عبد الله ، وطرحته في نقير فقال عليه السلام تحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا لا قال فتحلف اليهود قالوا كيف يحلفون ، وهم كفار } فجعل عليه السلام اليمين في جهة الخصم خرجه صاحب الموطإ وغيره

( والثالث ) ما روي أن المقداد اقترض من عثمان سبعة آلاف درهم فلما كان وقت القضاء جاء بأربعة آلاف درهم فقال عثمان أقرضتك سبعة آلاف درهم فترافعا إلى عمر فقال المقداد يحلف عثمان فقال عمر لعثمان لقد أنصفك . فلم يحلف عثمان فنقل عمر اليمين إلى المدعي ، ولم يختلف في ذلك عمر وعثمان والمقداد ولم يخالفهم غيرهم فكان إجماعا .

( الرابع ) القياس على النكول في باب القود والملاعنة لا تحد بنكول الزوج .

( الخامس ) لو نكل عن الجواب في الدعوى لم يحكم عليه مع أنه نكول عن اليمين والجواب فاليمين وحده أولى بعدم الحكم .

( السادس ) أن البينة حجة المدعي ، واليمين حجة المدعى عليه في النفي ، ولو امتنع المدعي من إقامة البينة لم يحكم عليه بشيء فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين لم يحكم عليه .

( السابع ) أن المدعي إذا امتنع من إقامة البينة كان للمدعى عليه إقامتها فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين فيكون للآخر فعلها .

( الثامن ) أن النكول إذا كان حجة تامة كالشاهدين وجب القضاء به في الدماء أو ناقصة كالشاهد والمرأتين أو يمين وجب استغناؤه عن التكرار أو كالاعتراف يقبل في القود بخلافه فالاعتراف لا يفتقر إلى تكرار بخلافه احتجوا بوجوه :

( الأول ) قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } فمنع سبحانه أن يستحق بيمينه على غيره حقا فلا ترد اليمين لئلا يستحق بيمينه مال غيره

( الثاني ) الملاعن إذا نكل حد بمجرد النكول

( الثالث ) أن ابن الزبير ولى ابن أبي مليكة قضاء اليمن فجاء إلى ابن عباس فقال إن هذا الرجل ولاني هذا البلد ، وإنه لا غناء لي عنه فقال له ابن عباس : اكتب لي بما يبدو لك قال فكتب إليه في جاريتين جرحت إحداهما الأخرى في كفها فكتب إليه ابن عباس احبسها إلى بعد العصر ، واقرأ عليها { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } قال ففعل ذلك ، واستحلفها فأبت فألزمها ذلك

( الرابع ) قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على [ ص: 94 ] من ادعى ، واليمين على من أنكر } فجعل اليمين في جهة المدعى عليه فلم يبق يمين تجعل في جهة المدعي ، وجعل حجة المدعي البينة ، وحجة المدعى عليه اليمين ، ولما لم يجز نقل حجة المدعى عليه إلى جهة المدعى عليه لم يجز أيضا نقل جهة المدعى عليه إلى جهة المدعي

( الخامس ) قوله عليه السلام { شاهداك ويمينه } ، ولم يقل أو يمينك

( السادس ) أن البينة للإثبات ، ويمين المدعى عليه للنفي فلما تعذر جعل البينة للنفي تعذر أيضا جعل اليمين للإثبات ، والجواب عن الأول أن معنى الآية أن لا تنفذ اليمين الكاذبة ليقطع بها مال غيره ، وهذه ليست كذلك ، ومجرد الاحتمال لا يمنع ، وإلا منع المدعى عليه من اليمين الدافعة لئلا يأخذ بها مال غيره بل يحكم بالظاهر ، وهو الصدق ، وعن الثاني أن الموجب لحد الملاعن قذفه ، وإنما أيمانه مسقطة فإذا فقد المانع عمل بالمقتضى ، والنكول عندكم مقتضى فلا جامع بينهما ، وعن الثالث أنه روى عن ابن أبي مليكة أنه قال اعترفت فألزمتها ذلك ، ولعله برأيه لا برأي ابن عباس فإن ابن عباس لم يأمره بالحكم عليها بذلك ، والتابعي لا حجة في فعله ، وعن الرابع أنه ورد لمن توجه عليه اليمين ابتداء ، ونحن نقول به ، وأما ما نحن فيه فلم يتعرض له الحديث ألا ترى أن المنكر قد يقيم البينة إذا ادعى وفاء الدين فكذلك اليمين قد توجد في حق المدعي في الرتبة الثانية ، وعن الخامس أنه لبيان من يتوجه عليه اليمين ابتداء في الرتبة الأولى كما تقدم تقريره ، وعن السادس أنا لم نجعل اليمين وحدها للإثبات بل اليمين مع النكول ثم إن البينة قد تكون للنفي كما تقدم تقريره مثل بينة القضاء فإنه نفي .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب السابع ) في بيان ما تكون فيه الحجة الثامنة ، والخلاف في قبولها ، ودليله ، وفيه وصلان

( الوصل الأول ) اليمين من المدعي بعد نكول المدعى عليه عن اليمين الرافعة للدعوى فيستحق ما ادعى به تكون فيما إذا ادعى رجل على رجل حقا ، وليس له بينة على ذلك فينكر المدعى عليه فتتوجه عليه اليمين على نفي ما ادعى به عليه ، وهي اليمين الرافعة للدعوى فينكل [ ص: 152 ] عنها فتنقلب اليمين على الطالب ، وهي اليمين المنقلبة فيحلف ، ويستحق فإن جهل المطلوب ردها فإنه يجب على الحاكم أن يعلمه بذلك ، ولا يقضي حتى يردها فإن نكل الطالب فلا شيء له قال في مختصر الواضحة فإن حلف المدعي حين نكل المدعى عليه ، وأخذ ما ادعاه ثم إن المدعى عليه وجد بينة

ببراءته من ذلك نفعه ذلك ، واستعاد ما أخذه من المدعي ا هـ ، وتكون أيضا فيما إذا ادعى المطلوب العدم ، وقال إن المدعي عالم بذلك فله أخذ اليمين الرافعة للدعوى فإن نكل المدعي فلا مقال وحلف المطلوب أنه ليس له مال ظاهر ولا باطن ، وهذه اليمين تسمى اليمين المصححة ، والمدعي في هذه الصورة مدعى عليه انظر المتيطية أفاده ابن فرحون في التبصرة ، والله أعلم

( الوصل الثاني ) في الأصل اليمين ، والنكول حجة عندنا ، وعند الشافعي ، وقال أحمد بن حنبل يقضي بالنكول ، ولا ترد اليمين على الطالب ، وقال أبو حنيفة إن كانت الدعوى في مال كرر عليه ثلاثا فإن لم يحلف لزمه الحق ، ولا ترد اليمين ، وإن كانت في عقد فلا يحكم بالنكول بل يحبس حتى يحلف أو يعترف ، وفي النكاح والطلاق والنسب وغيره لا مدخل لليمين فيه فلا نكول .

وقال ابن أبي ليلى يحبس في جميع ذلك حتى يحلف لنا وجوه : ( الأول ) قوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولا يمين بعد يمين ، وهو خلاف الإجماع فتعين حمله على يمين بعد رده يمين على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه لأن اللفظ إذا ترك من وجه بقي حجة في الباقي ( الثاني ) ما روي { أن الأنصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن اليهود قتلت عبد الله وطرحته في قفير أي بئر فقال عليه السلام أتحلفون ، وتستحقون دم صاحبكم قالوا لا قال فتحلف لكم اليهود قالوا كيف يحلفون وهم كفار } فجعل عليه السلام اليمين في جهة الخصم أخرجه صاحب الموطإ ، وغيره ( الثالث ) ما روي أن المقداد اقترض من عثمان سبعة آلاف درهم فلما كان وقت القضاء جاء بأربعة آلاف درهم فقال عثمان أقرضتك سبعة آلاف درهم فترافعا إلى عمر فقال المقداد يحلف عثمان فقال عمر لعثمان لقد أنصفك فلم يحلف عثمان فنقل عمر اليمين إلى المدعي ، ولم يختلف في ذلك عمر وعثمان والمقداد ، ولم يخالفهم غيرهم فكان إجماعا

( الرابع ) القياس على النكول في باب القود والملاعنة لاتحد بنكول الزوج

( الخامس ) لو نكل عن الجواب في الدعوة لم يحكم عليه مع أنه نكول عن اليمين ، والجواب فاليمين وحده أولى بعدم الحكم

( السادس ) أو البينة حجة المدعي ، واليمين حجة المدعى عليه في النفي ، ولو امتنع من إقامة البينة لم يحكم عليه بشيء فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين لم يحكم عليه

( السابع ) أن المدعي إذا امتنع من إقامة البينة كان للمدعى عليه إقامتها فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين فيكون للآخر فعلها

( الثامن ) أن النكول إذا كان حجة تامة كالشاهدين وجب القضاء به في الدماء أو ناقصة كالشاهدين ، والمرأتين أو كالشاهد ، ويمين وجب استغناؤه عن التكرار أو كالاعتراف يقبل في القود ، ولا يفتقر أي إلى تكرار بخلافه النكول ، وأما الوجوه التي احتجوا بها

( فالأول ) قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } يمنع سبحانه أن يستحق بيمينه على غيره حقا فلا ترد اليمين لئلا يستحق بيمينه مال غيره ، وجوابه أن معنى الآية أن لا تنفذ اليمين الكاذبة ليقطع بها مال غيره ليست كذلك ، ومجرد الاحتمال لا يمنع ، وإلا لمنع المدعى عليه في اليمين [ ص: 153 ] الدافعة لئلا يأخذ بها مالا بل يحكم بالظاهر ، وهو الصدق

( والوجه الثاني ) الملاعن إذا نكل حد بمجرد النكول ، وجوابه أن الموجب لحد الملاعن قذفه ، وإنما أيمانه مسقطة فإذا فقد المانع عومل بالمقتضى ، والنكول عندكم مقتضى فلا جامع بينهما

( والوجه الثالث ) أن ابن الزبير ولى ابن أبي مليكة قضاء اليمن فجاء إلى ابن عباس فقال إن هذا الرجل ولاني هذا البلد ، وأنه لا غناء لي عنه فقال له ابن عباس اكتب لي بما يبدو لك فكتب إليه في جاريتين جرحت أحدهما الأخرى في كفها فكتب إليه ابن عباس احبسها إلى بعد العصر واقرأ عليها { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } قال ففعل ذلك ، واستحلفها فأبت فألزمها ذلك ، وجوابه أنه روي عن ابن أبي مليكة أنه قال اعترفت فألزمتها ذلك ، ولعله برأيه لا برأي ابن عباس فإن ابن عباس لم يأمره بالحكم عليها بذلك ، والتابعي لا حجة في فعله

( والوجه الرابع ) قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر } فجعل اليمين في حجة المدعى عليه فلم يبق يمين تجعل في جهة المدعي ، وجعل حجة المدعي البينة ، وحجة المدعى عليه اليمين ، ولما لم يجز نقل حجة المدعي إلى حجة المدعى عليه لم يجز أيضا نقل حجة المدعى عليه إلى جهة المدعى عليه ، وجوابه أنه ورد لمن توجه عليه اليمين ابتداء ، ونحن نقول به ، وأما ما نحن فيه فلم يتعرض له الحديث ألا ترى أن المنكر قد يقيم البينة إذا ادعى الدين فكذلك قد توجد في حق المدعي في الرتبة الثانية

( والوجه الخامس ) قوله عليه السلام { شاهداك أو يمينه } ، ولم يقل أو يمينك ، وجوابه أنه لبيان من تتوجه عليه اليمين ابتداء في الرتبة الأولى كما تقدم تقريره

( والوجه السادس ) أن البينة للإثبات ، ويمين المدعى عليه للنفي فلما تعذر جعل البينة للنفي تعذر أيضا جعل اليمين للإثبات ، وجوابه أنا لم نجعل اليمين وحدها للإثبات بل اليمين مع النكول على أن البينة قد تكون للنفي كما تقدم تقريره مثل بينة القضاء فإنه نفي ا هـ ، وسلمه ابن الشاط ، والله أعلم




الخدمات العلمية