الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعا قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر وقال لو يعلمون ما في العتمة والفجر قال أبو عبد الله والاختيار أن يقول العشاء لقوله تعالى ومن بعد صلاة العشاء ويذكر عن أبي موسى قال كنا نتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء فأعتم بها وقال ابن عباس وعائشة أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء وقال بعضهم عن عائشة أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعتمة وقال جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء وقال أبو برزة كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء وقال أنس أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة وقال ابن عمر وأبو أيوب وابن عباس رضي الله عنهم صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء

                                                                                                                                                                                                        539 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال سالم أخبرني عبد الله قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء وهي التي يدعو الناس العتمة ثم انصرف فأقبل علينا فقال أرأيتم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد [ ص: 54 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 54 ] ( باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعا ) غاير المصنف بين هذه الترجمة والتي قبلها مع أن سياق الحديثين الواردين فيهما واحد ، وهو النهي عن غلبة الأعراب على التسميتين ، وذلك لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إطلاق اسم العشاء على المغرب ، وثبت عنه إطلاق اسم العتمة على العشاء ، فتصرف المصنف في الترجمتين بحسب ذلك . والحديث الذي ورد في العشاء أخرجه مسلم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عمر بلفظ لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنها في كتاب الله العشاء ، وأنهم يعتمون بحلاب الإبل ، ولابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة وإسناده حسن ، ولأبي يعلى والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف كذلك ، زاد الشافعي في روايته في حديث ابن عمر " وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العتمة صاح وغضب " . وأخرج عبد الرزاق هذا الموقوف من وجه آخر عن ابن عمر ، واختلف السلف في ذلك : فمنهم من كرهه كابن عمر راوي الحديث ، ومنهم من أطلق جوازه ، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره ، ومنهم من جعله خلاف الأولى وهو الراجح ، وسيأتي للمصنف ، وكذلك نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي واختاره ، ونقل القرطبي عن غيره : إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشرعية الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية وهي الحلبة التي كانوا يجلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة . قلت : وذكر بعضهم أن تلك الحلبة إنما كانوا يعتمدونها في زمان الجدب خوفا من السؤال والصعاليك ، فعلى هذا فهي فعلة دنيوية مكروهة لا تطلق على فعلة دينية محبوبة ، ومعنى العتم في الأصل تأخير مخصوص ، وقال الطبري : العتمة بقية اللبن تغبق بها الناقة بعد هوى من الليل ، فسميت الصلاة بذلك لأنهم كانوا يصلونها في تلك الساعة . وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مهران قال : قلت لابن عمر من أول من سمى صلاة العشاء العتمة ؟ قال : الشيطان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وقال أبو هريرة ) شرع المصنف في إيراد أطراف أحاديث محذوفة الأسانيد كلها صحيحة مخرجة في أمكنة أخرى ، حاصلها ثبوت تسمية هذه الصلاة تارة عتمة وتارة عشاء ، وأما الأحاديث التي لا تسمية فيها بل فيها إطلاق الفعل كقوله " أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ففائدة إيراده لها الإشارة إلى أن النهي عن ذلك إنما هو لإطلاق الاسم ، لا لمنع تأخير هذه الصلاة عن أول الوقت . وحديث أبي هريرة المذكور وصله المصنف باللفظ الأول في " باب فضل العشاء جماعة " ، وباللفظ الثاني وهو العتمة في " باب الاستهام في الأذان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( قال أبو عبد الله ) هو المصنف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( والاختيار ) قال الزين بن المنير : هذا لا يتناوله لفظ الترجمة فإن لفظ الترجمة يفهم التسوية [ ص: 55 ] وهذا ظاهر في الترجيح . قلت : لا تنافي بين الجواز والأولوية ، فالشيئان إذا كانا جائزي الفعل قد يكون أحدهما أولى من الآخر ، وإنما صار عنده أولى لموافقته لفظ القرآن ، ويترجح أيضا بأنه أكثر ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبأن تسميتها عشاء يشعر بأول وقتها بخلاف تسميتها عتمة لأنه يشعر بخلاف ذلك ، وبأن لفظه في الترجمة لا ينافي ما ذكر أنه الاختيار ، وهو واضح لمن نظره ، لأنه قال " من كره " فأشار إلى الخلاف ، ومن نقل الخلاف لا يمتنع عليه أن يختار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( ويذكر عن أبي موسى ) سيأتي موصولا عند المصنف مطولا بعد باب واحد ، وكأنه لم يجزم به لأنه اختصر لفظه ، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل ، وأجاب به من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين ، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة ، وصيغة التمريض لا تدل . ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف ، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى ، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه وإن كان المصنف يرى الجواز .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وقال ابن عباس وعائشة ) أما حديث ابن عباس فوصله المصنف في " باب النوم قبل العشاء " كما سيأتي قريبا ، وأما حديث عائشة بلفظ " أعتم بالعشاء " فوصله في " باب فضل العشاء " من طريق عقيل ، وفي الباب الذي بعده من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري عن عروة عنها ، وأما حديثها بلفظ " أعتم بالعتمة " فوصله المصنف أيضا في " باب خروج النساء إلى المساجد بالليل " بعد " باب وضوء الصبيان " من كتاب الصلاة أيضا من طريق شعيب عن الزهري بالسند المذكور ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عقيل أيضا ويونس وابن أبي ذئب وغيرهم عن الزهري بلفظ " أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بالعشاء وهي التي يدعو الناس العتمة " وهذا يشعر بأن السياق المذكور من تصرف الراوي .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) معنى أعتم دخل في وقت العتمة ، ويطلق أعتم بمعنى أخر لكن الأول هنا أظهر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وقال جابر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العشاء ) هو طرف من حديث وصله المؤلف في " باب وقت المغرب " وفي " باب وقت العشاء " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال أبو برزة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء هو طرف من حديث وصله المؤلف في " باب وقت العصر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال أنس أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء هو طرف من حديث وصله المؤلف في " باب وقت العشاء إلى نصف الليل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وقال ابن عمر وأبو أيوب وابن عباس : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء ) أما حديث ابن عمر فأسنده المؤلف في الحج بلفظ صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا أما حديث أبي أيوب فوصله أيضا بلفظ جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بين المغرب والعشاء وأما حديث ابن عباس فوصله في " باب تأخير الظهر إلى العصر " كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( قال سالم أخبرني عبد الله ) هو سالم بن عبد الله بن عمر ، وشيخه عبد الله هو أبوه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 56 ] قوله : ( ( صلى لنا ) أي لأجلنا أو اللام بمعنى الباء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وهي التي يدعونها الناس العتمة ) تقدم نظير ذلك في حديث أبي برزة في قوله " وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة " وتقدم أيضا من حديث عائشة عند الإسماعيلي ، وفي كل ذلك إشعار بغلبة استعمالهم لها بهذا الاسم ، فصار من عرف النهي عن ذلك يحتاج إلى ذكره لقصد التعريف ، قال النووي وغيره : يجمع بين النهي عن تسميتها عتمة وبين ما جاء من تسميتها عتمة بأمرين : أحدهما أنه استعمل ذلك لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم ، والثاني بأنه خاطب بالعتمة من لا يعرف العشاء لكونه أشهر عندهم من العشاء ، فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية . ويحتمل أنه استعمل لفظ العتمة في العشاء لأنه كان مشتهرا عندهم استعمال لفظ العشاء للمغرب ، فلو قال : لو يعلمون ما في الصبح والعشاء ، لتوهموا أنها المغرب .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهذا ضعيف لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث لو يعلمون ما في الصبح والعشاء ، فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة وبالعتمة تارة من تصرف الرواة ، وقيل إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز ، وتعقب بأن نزول الآية كان قبل الحديث المذكور ، وفي كل من القولين نظر للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ ، ولا بعد في أن ذلك كان جائزا ، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية ، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلرفع الالتباس بالمغرب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ( وهي التي يدعو الناس العتمة ) فيه إشعار بغلبة هذه التسمية عند الناس ممن لم يبلغهم النهي ، وقد تقدم الكلام على متن الحديث في " باب السمر في العلم " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية