الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولا : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه ، فكان هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ، ولا شك [ ص: 653 ] أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك ، بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلا ـ فهو حكم الله عليهم ، فيلزمهم العمل بمقتضاه ، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون ، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل .

                        وأيضا ؛ فإنا نعلم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة . ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه ، أو لأنه يوافق محبتي ورضائي ، ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير ، وقيل له : من أين لك أن تحكم على عبادة الله بمحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلانه .

                        بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ، وينحصرون إلى ضوابط الشرع .

                        وأيضا ، فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة ؛ لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر ؟ والشريعة ليست كذلك .

                        على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا . ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يتبعون ، خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيا ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالما أو لقوه أن يصانعوا ، وإذا وجدوا جاهلا [ ص: 654 ] عاميا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات ، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ، ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس . ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصته . وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ، حتى يهووا بهم في نار جهنم ، وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا .

                        وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم ، تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم ، والتحيل عليهم بأنواع الحيل ، حتى يخرجوهم من السنة ، أو عن الدين جملة . ولولا الإطالة لأتيت بكلامه ، فطالعه في كتاب " فضائح الباطنية " .

                        وأما الحد الثاني ، فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء ، واكتفى بمجرد القول ، فألجأ الخصم إلى الإبطال . وهذا يجر فسادا لا خفاء له . وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به ، وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه .

                        - وأما الدليل الأول ، فلا متعلق به ، فإن أحسن الاتباع إلينا اتباع الأدلة الشرعية ، وخصوصا القرآن ، فإن الله تعالى يقول : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية ، وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : أما بعد ، فأحسن الحديث كتاب الله [ ص: 655 ] فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا ، فضلا عن أن يقول من أحسنه .

                        وقوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية . يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا . وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد .

                        ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله ، وأنه ليس بحجة ، وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع .

                        وأيضا ، فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر ، إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع ، وذلك محال ، للعلم بأن ذلك مضاد للشريعة ، فضلا عن أن يكون من أدلتها .

                        وأما الدليل الثاني ، فلا حجة فيه من أوجه :

                        أحدها : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن ، والأمة لا تجتمع على باطل . فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا ، لأن الاجتماع يتضمن دليلا شرعيا ، فالحديث دليل عليكم لا لكم .

                        والثاني : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع .

                        والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام ، وهو باطل بإجماع . لا يقال : إن المراد استحسان أهل الاجتهاد ، لأنا نقول : هذا ترك للظاهر ، فيبطل الاستدلال . [ ص: 656 ] ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد ، لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة ، فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد ؟

                        فإن قيل : إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها . قيل : بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة ، بدليل أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع .

                        فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة ، لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ، ومنها ما قد مضى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية