الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الرابع والثلاثون: أن يقال له: ما تريد بلفظ الوهم [ ص: 320 ] والخيال؟ أتريد به ما قد يخص هذا اللفظ به في العرف، من تخيل الباطل وتوهمه؟ فلا ريب أن كل حق في الوجود، ينزه عن هذا التوهم والتخيل، وكل حق، فإنه على خلاف ما يقضي به هذا الوهم والخيال، وكل حق، فهو على خلاف هذا الوهم والخيال، وما أكثر ما يسمع وصف شيء بألفاظ فيتخيلونه على صورة، فإذا رأوه وجدوه بخلاف ما تخيلوه، وما أكثر ما يتوهم الإنسان في إنسان شيئا، فإذا رآه وجده بخلاف ما توهمه. ولا ريب أن الله على خلاف ما يتخيله ويتوهمه المبطلون من الجهمية وغيرهم، كما قال تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [الصافات: 180-182] وقال: سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [الإسراء: 43] وقال: ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [فصلت: 22-23] وقال: وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [الأحزاب: 10-11] وقال: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء إلى قوله بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا [الفتح: 6-12] وقال: فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ ص: 321 ] [الأنبياء: 87] وقال: إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور [الانشقاق: 13-14] وقال إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [النجم: 28] إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى [النجم: 23] وقال: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف: 80].

ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة، مثل اعتقاد الكفار في ربهم، وما يتبعها من الإرادات هي خيالات وأوهام باطلة، كما قال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [النور: 39-40] هذا بعد قوله: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة إلى قوله: نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [النور: 35] وقال تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [الأنعام: 122].

ولا ريب أن كثيرا من الناس، يتخيل ويتوهم في نفسه صورا باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك، كما يعتقد في ربه اعتقادات [ ص: 322 ] باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك. فالاعتقاد والتوهم، والتخيل الباطل، موجود في جانبي النفي والإثبات، والباطل في جانب النفي أكثر منه في جانب الإثبات; ولهذا يوجد من الجهمية النفاة من يعتقد أن الله هو الوجود المطلق، وأنه وجود الموجودات أنفسها، وأنه بنفسه في كل مكان، وأن وجود الموجودات كلها وجود واحد. ويقولون بوحدة الوجود في الخارج، وأنه عين ذلك الوجود، ونحو ذلك من الاعتقادات، التي يقولون: إنها حصلت لهم بالكشف والمشاهدة، وهي خيالات وأوهام باطلة: إما أن لا يكون لها حقيقة في الخارج، أو يكون لها حقيقة، لكن تكون هي أمر مخلوق، لا تكون هي الخالق سبحانه. وكما يتخيلون ويتوهمون، أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا كذا ولا كذا، مما هو عند أهل العقول السليمة خيالات باطلة، وأوهام فاسدة، لا تنطبق إلا على المعدوم، بل على الممتنع; ولهذا يوجد في هؤلاء من يعبد المخلوقات، ومن يعتقد في كثير من المخلوقات، أنه الله، [ ص: 323 ] أضعاف أضعاف ما يوجد في أهل الإثبات، كما قد رأينا وسمعنا من ذلك ما لا يسع هذا المكان ذكر عشره، فلهذا هم أعظم الناس اختيالا وتكبرا، حيث قد يختال أحدهم في نفسه أنه الله ويعظمون فرعون في قوله: أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24] ما علمت لكم من إله غيري [القصص: 38] ونحو ذلك من الاختيال الباطل، الذي هو أفسد اختيال وأعظم فرية على الله. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وأما إن أراد أنه على خلاف ما يصدق به، ويعتقده ويظنه، ويتوهمه ويتخيله، ويقوله ويصفه، وينعته الأنبياء والمؤمنون به، فهذا باطل، فإن اعتقاد هؤلاء فيه اعتقاد مطابق حق، وإن سمي ظنا ونحوه، كما قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [البقرة: 45-46] وقال تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [الحاقة: 19-20]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: أنا عند ظن [ ص: 324 ] عبدي بي، فليظن بي خيرا» وفي صحيح مسلم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» فمن ظن وتوهم في ربه، أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، كان هذا الظن والتوهم حقا، وإن كان الواجب تيقن ذلك، بخلاف من ظن وحسب، أنه لا يسمع سره ونجواه، كما قال تعالى: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف: 80] وقال: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ ص: 325 ] [الكهف: 104].

بل لفظ الرؤية، وإن كان في الأصل يكون مطابقا، فقد لا يكون مطابقا كما في قوله: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا [فاطر: 8] وقال: يرونهم مثليهم رأي العين [آل عمران: 13].

التالي السابق


الخدمات العلمية