الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ونزعنا ما في صدورهم من غل أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل وقيل المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل إن هذا النزع إنما كان في الدنيا والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية .

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعده ظاهر الصيغة و ( من غل ) على سائر الاحتمالات حال من ( ما ) وقوله سبحانه ( تجري من تحتهم الأنهار ) حال أيضا إما من الضمير ( في صدورهم ) لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف وإما من ضمير ( نزعنا ) على ما قيل والعامل الفعل واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها [ ص: 121 ] وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وما كنا لنهتدي أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لولا أن هدانا الله وفقنا له واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول ( نهتدي ) و ( هدانا ) الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه والجملة حالية أو استئنافية وفي مصاحف أهل الشام ( ما كنا ) بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح ولا للقربة وقوله سبحانه : لقد جاءت رسل ربنا بالحق جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء وقيل : تعليل لهدايتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ودونك فاعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله واختر لنفسك أي الفرقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية ونودوا أي نادتهم الملائكة وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله والآثار تؤيد الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      أن تلكم الجنة أي أي تلكم على أن ( أن ) مفسرة لما في النداء من معنى القول ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن تلكم الجنة مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : أورثتموها حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الجنة نعتا لتلكم أو بدلا و أورثتموها الخبر ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من كم كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيه البعد أن تلكم خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها بما كنتم تعملون (43) في الدنيا من الأعمال الصالحة والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا [ ص: 122 ] سببا له والباء في قوله صلى الله عليه وسلم على ما في بعض الكتب : لن يدخل أحدكم الجنة بعمله وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر لن ينجو أحد منكم بعمله للسبب التام فلا تعارض وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم وقيل : تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين : فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضيل لهذه الآية ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانك هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية