الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6404 [ ص: 50 ] 10 - باب: إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله

                                                                                                                                                                                                                              6786 - حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يأثم ، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه ، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، حتى تنتهك حرمات الله ، فينتقم لله . [ انظر : 3560 - مسلم : 2327 - فتح 12 \ 86 ] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه ، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، حتى تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله .

                                                                                                                                                                                                                              يحتمل كما قال ابن بطال أن ( يكون ) هذا التخيير ليس من الله ؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد ، وإلا اختار لهم أيسرهما ما لم يكن عليهم في الأيسر إثما ؛ لأن العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم ، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثما في أمور ( الدين ) ، وذلك أن الغلو في الدين مذموم ، والتشديد فيه غير محمود ؛ لقوله - عليه السلام -" إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئا شاقا من العبادة ثم لم يقدر على التمادي فيه ، كان ذلك إثما ، ولذلك نهى الشارع أصحابه عن الترهب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 51 ] قال أبو قلابة : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قوما حرموا الطيب واللحم ، منهم عثمان بن مظعون ، وابن مسعود ، وأرادوا أن يختصوا ، فقام على المنبر فأوعد في ذلك وعيدا شديدا ، ثم قال :" إني لم أبعث بالرهبانية ، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة ، وإن أهل الكتاب إنما هلكوا بالتشديد ، شددوا فشدد عليهم " ثم قال :" اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة وحجوا البيت ، واستقيموا يستقم لكم " وقد جعل مطرف بن الشخير ، ويزيد بن مرة الجعفي مجاوزة القصد في العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئة ، فقالا : الحسنة بين السيئتين ، والسيئتان . إحداهما : مجاوزة القصد ، والثانية : التقصير عنه ، والحسنة التي بينهما هي : القصد والعدل .

                                                                                                                                                                                                                              وقدم ابن التين على هذين الاحتمالين أنه قيل : إنه يريد في أمر الدنيا ، وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابا ، واستدل قائل هذا بقوله : ( ما لم يكن إثما ) . وفي رواية : ( ما لم يكن يأثم ) .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقولها : ( وما انتقم لنفسه ) قال الداودي : يعني : إذا أوذي بغير السبب الذي لا يخرج إلى الكفر ، مثل الأذى في المال والجفاء في رفع الصوت فوق صوته ، ونحو التظاهر الذي تظاهرت عليه عائشة وحفصة ، ومثل جبذ الأعرابي له حتى أثرت حاشية البرد في عنقه أخذا منه بقوله تعالى ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ] ، وأما إذا أوذي بسبب هو كفر وهو انتهاك حرمة الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 52 ] فيجب عليه الانتقام لنفسه ؛ كفعله في ابن خطل يوم الفتح ، حين تعوذ بالكعبة من القتل ، فأمر بقتله دون سائر الكفار ؛ لأنه كان يكثر من سبه ، وقد أمر بقتل القينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه وانتقم لنفسه ؛ لأنه من سبه فقد كفر ومن كفر فقد آذى الله ورسوله ؛ ولذلك قال :" من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله " فانتقم منه كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله أن تنتهك ، وعليهم تغيير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي عن مالك في الرجل يؤذى وتنتهك حرمته ، ثم يأتيه الظالم المنتهك لحرمته ، قال : لا أرى أن يغفر له ، ووجه ذلك إذا كان معروفا بانتهاك حرم المسلمين ، فلا يجب أن يجري على هذا ويرد بالإغلاظ عليه والقمع له من ظلم أحد .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن مالك أنه قال : كان القاسم بن محمد يحلل من ظلمه يكره لنفسه الخصوم ، وكان ابن المسيب لا يحلل أحدا ، وسئل عن ذلك فقيل له : أرأيت الرجل يموت ولك عليه دين لا وفاء له به ، ( قال ) : الأفضل عندي أن أحلل .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أخرى : كان بعض الناس يحلل من ظلمه ويتأول :" الحسنة بعشر أمثالها " وما هذا بالدين عندي ، وإن من لم يعفه لمستوف حقه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 53 ] وقيل : المراد بقول عائشة السالف الأموال ؛ لأنها روت خبر اللد وكل من كان في البيت إلا العباس فإنه لم يحضر معهم واعتزل نساءه شهرا تواطأت عليه عائشة وحفصة ، وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدر من بين الأسرى . وقيل : أرادت أنه لم يكن ينتقم لنفسه غالبا ، حكاهما ابن التين ، قيل : ما حكيناه عن الداودي .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية