الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الحجة الحادية عشرة ) المرأتان فقط أما شهادة النساء فوقع الخلاف فيها في ثلاث مسائل

( المسألة الأولى ) قال مالك والشافعي وابن حنبل لا يقبلن في أحكام الأبدان ، وقال أبو حنيفة يقبل في أحكام الأبدان شاهد وامرأتان إلا في الجراح الموجبة للقود في النفوس والأطراف لنا وجوه :

( الأول ) قوله تعالى في مسائل المداينات { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فكان كل ما يتعلق بالمال مثله ، ومفهومه أنه لا يجوز في غيره فلا تجوز في أحكام الأبدان

( الثاني ) قوله في الطلاق والرجعة { وأشهدوا ذوي عدل منكم } الآية ، وهو حكم بدني فكانت الأحكام البدنية كلها كذلك إلا موضع لا يطلع [ ص: 95 ] عليه الرجال للضرورة في ذلك

( الثالث ) قوله عليه السلام { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } وهو حكم بدني فكانت الأحكام البدنية كلها كذلك احتجوا بوجوه :

( الأول ) قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } الآية فأقام المرأتين والرجل مقام الرجلين في ذلك أما عند عدم الشاهدين فهو باطل لجوازهما مع وجود الشاهدين إجماعا فتعين أنهما يقومان مقامهما في التسوية فيكونان مرادين بقوله عليه السلام ، وشاهدي عدل لوجود الاسم .

( الثاني ) قوله تعالى { فرجل وامرأتان } أطلق ، وما خص موضعا فيعم .

( الثالث ) أنهما أمور لا تسقط بالشبهات فتقبل فيها النساء كالأموال .

( الرابع ) أن النكاح والرجعة عقد منافع فيقبل فيهما النساء كالإجارات .

( الخامس ) أن الخيار والآجال ليست أموالا ، ويقبل فيها النساء فكذلك بقية صور النزاع .

( السادس ) أن الطلاق رافع لعقد سابق فأشبه الإقالة .

( السابع ) أنه يتعلق به تحريم كالرضاع .

( الثامن ) أن العتق إزالة ملك كالبيع ، والجواب عن الأول أن معنى الآية أنهما يقومان مقام الرجل في الحكم بدليل الرفع في لفظ رجل وامرأتين ، ولو كان المراد ما ذكرتم لقال فرجلا وامرأتين بالنصب لأنه خبر كان ، ويكون التقدير فإن لم يكن الشاهد إن رجلين فيكونا رجلا وامرأتين فلما رفع على الابتداء كان تقديره رجل وامرأتان يقومان مقام الشاهدين بحذف الخبر ، وعن الثاني أن آخر الآية مرتبط بأولها ، وأولها : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، ثم قال تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } على أن العموم لو سلمناه خصصناه بالقياس على جراح القود بجامع عدم قبولهن منفردات ، ولأن الحدود أعلاها الزنا ، وأدناه السرقة ، ولم يقبل في أحدهما ما يقبل في الآخر فكذلك الأبدان أعلى من الأموال فلا يقبل فيها ما يقبل في الأموال ، ولأن القتل ، وحد القطع في السرقة ، وحد الخمر ليس ثابتا بالنص ، ولا بالقياس على الزنا لعدم اشتراط أربعة فيه ، ولا بالقياس على الأموال لأنها تثبت بالنساء فتعين قياسها على الطلاق ، وعن الثالث الفرق أن أحكام الأبدان أعظم رتبة لأن الطلاق ونحوه لا يقبلن فيه منفردات فلا يقبلن فيه مطلقا كالقصاص ، ولأنا وجدنا النكاح آكد من الأموال لاشتراط الولاية ، ولم يدخله الأجل والخيار والهبة ، وعن الرابع أن المقصود من الإجارة المال ، وعن الخامس أن مقصوده أيضا المال بدليل أن الأجل والخيار [ ص: 96 ] لا يثبتان إلا في موضع فيه المال ، وعن السادس أن حل عقد لا يثبت بالنساء والنكول أيضا مقصود الطلاق غير المال ، ومقصود الإقالة المال ، وعن السابع أن الرضاع يثبت بالنساء منفردات بخلاف الطلاق ، وهو الجواب عن الثامن ، ولأن العتق ماله إلى غير ملك بخلاف البيع ( المسألة الثانية ) خالفنا أبو حنيفة في قبول النساء منفردات في الرضاع ولنا أنه معنى لا يطلع عليه الرجال غالبا فتجوز منفردات كالولاد والاستهلال

( المسألة الثالثة ) خالفنا الشافعي في قبول المرأتين فيما ينفردان فيه .

وقال لا بد من أربع ، وقال أبو حنيفة إن كانت الشهادة ما بين السرة والركبة قبلت فيه واحدة ، وقبل أحمد بن حنبل واحدة مطلقا فيما لا يطلع عليه الرجال ، وعندنا لا بد من اثنتين مطلقا ، ويكفيان لنا وجوه :

( الأول ) أن كل جنس قبلت شهادته في شيء على الانفراد كفى منه اثنان ، ولا يكفي منه واحد كالرجل في سائر الحقوق .

( الثاني ) أن شهادة الرجال أقوى ، وأكثر ، ولم يكف واحد فالنساء أولى احتجوا بوجوه :

( الأول ) ما { روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي إيهاب فأتت أم سورة فقالت أرضعتكما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فأعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله إنها كاذبة قال كيف ، وقد علمت ، وزعمت ذلك } متفق على صحته .

( الثاني ) عن علي أنه قبل شهادة القابلة وحدها في الاستهلال .

( الثالث ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { في الرضاع شهادة امرأة واحدة تجزئ } .

( الرابع ) القياس على الرواية ، والجواب عن الأول أنه حجة لنا لأن المرأة الواحدة لو كفت لأمره بالتفريق من أول مرة كما شهد عدلان لأن التنفيذ عند كمال الحجة واجب على الفور لا سيما في استباحة الفروج فلا يدل ذلك على أن الواحدة كافية في الحكم بل معناه من قاعدة أخرى ، وهي أن من غلب على ظنه تحريم شيء بطريق من الطرق كان ذلك الطريق يفضي به إلى الحكم أم لا فإن ذلك الشيء يحرم عليه فمن غلب على ظنه طلوع الفجر في رمضان حرم عليه الأكل أو الطعام نجس حرم عليه أكله ، ونحو ذلك ، وإخبار الواحدة يفيد الظن فأمره عليه السلام بطريق الفتيا لا بطريق الحكم ، والإلزام ، وعن الثاني أنه معارض بأدلتنا المتقدمة أو بحمله على الفتيا جمعا بين الأدلة ، وعن الثالث كذلك أيضا ، وعن الرابع الفرق أن الرواية تثبت حكما عاما في [ ص: 97 ] في الأمصار والأعصار لا على معين فليست مظنة العداوة فلا يشترط فيها العدد فتقبل الواحدة في الرواية ، ولا تقبل في الشهادة اتفاقا .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب العاشر ) في بيان ما تكون فيه الحجة الحادية عشر ، والخلاف في قبولها ودليله ، وفيه وصلان :

( الوصل الأول ) في التبصرة القضاء بقول امرأتين بانفرادهما فيما لا يطلع عليه إلا النساء كالولادة والبكارة والثيوبة والحيض والحمل والسقط والاستهلال والرضاع وإرخاء الستور وعيوب الحرائر والإماء ، وفي كل ما تحت ثيابهن ، ووجه ذلك أنه لما كانت هذه الأمور مما لا يحضرها الرجال ، ولا يطلعون عليها أقيم فيها النساء مقام الرجال للضرورة قال وتجوز القسامة مع شهادة امرأتين على أحد الأقوال فيما تجوز معه القسامة قال وأما شهادتهن فيما يقع بينهن في المأتم والحمام من الجراح والقتل ففي ذلك خلاف ، والأصل الجواز للضرورة كالصبيان فيما يقع بينهم من ذلك قال ابن المناصف وكذلك إن لم يكونا عدلين لأنه موضع لا يحضره العدول ، ورأي اللخمي أن يقسم معهما في القتل ثم يقاد ، ويحلف في الجراح ثم يقتص ، قال وإن عدل منهن في ذلك اثنتان قيد في القتل بغير قسامة واقتص في الجراح بغير يمين فنحا بهن منحى الرجال ، والصحيح أن شهادة النساء بعضهن على بعض في المواضع التي لا يحضرها الرجال كما لحمام العرس والمآتم ، وما أشبه ذلك ، ولا تجوز فيما يقع بينهن من الجراح والقتل لأن الغالب عدم ضرورتهن إلى الاجتماع في ذلك ، وقيل تجوز لحاجتهن إلى ذلك قاله ابن رشد قال ولم يزل النساء يجمعهن في الأعراس والمآتم في زمنه صلى الله عليه وسلم وهلم جرا فإذا لم يقبل قول بعضهن على بعض ذهبت دماؤهن ، وفي الإملاء على الجلاب المقيد عن ابن زيد البرناسي قال وهذا إذا كان [ ص: 156 ] في العرس المباح الذي لا يختلط فيه الرجال مع النساء ، ولم يكن هناك منكر بين وكان دخولهن الحمام بالمئزر في هذه مسألة الخلاف .

وأما إذا كن في الحمام بغير مئزر ، وفي الأعراس التي يمتزج فيه الرجال والنساء فلا يختلف في المذهب أن شهادة بعضهن لبعض لا تقبل وكذلك المأتم لا يحصل حضوره إذا كان فيه نوح ، وما أشبه ذلك مما حرمه الشارع لأن بحضورهن في هذه المواضع تسقط عدالتهن ، والله تعالى اشترط العدالة في الرجال والنساء بقوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } ا هـ المراد فانظرها ، والله أعلم ( الوصل الثاني ) في الأصل وقع خلاف الأئمة لنا في قبول شهادة النساء ، وعدم قبولها في ثلاث مسائل

( المسألة الأولى ) خالفنا أبو حنيفة في قبول النساء منفردات في الرضاع ، ولنا أنه معنى لا يطلع عليه الرجال غالبا فتجوز منفردات كالولادة ، والاستهلال ( المسألة الثانية ) خالفنا الشافعي في قبول المرأتين فيما ينفردان فيه ، وقال لا بد من أربع ، وقال أبو حنيفة إن كانت الشهادة ما بين السرة والركبة قبلت فيه واحدة ، وقبل أحمد بن حنبل واحدة مطلقا فيما لا يطلع عليه الرجال ، وعندنا لا بد من اثنتين مطلقا ويكفيان لنا وجهان

( الأول ) أن كل جنس قبلت شهادته في شيء على الانفراد كفى منه اثنان ، ولا يكفي منه واحد كالرجل في سائر الحقوق

( الثاني ) أن شهادة الرجال أقوى ، وأكثر ، ولم يكف واحد فالنساء أولى ، وأما الوجوه التي احتجوا بها فأربعة ( الأول ) ما روى { عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي إيهاب فأتت أم سورة فقالت أرضعتكما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فأعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله إنها كاذبة قال كيف ، وقد علمت وزعمت ذلك } متفق على صحته ، وجوابه أنه حجة لنا فإن أمره صلى الله عليه وسلم فيه بطريق الفتيا لا بطريق الحكم ، والإلزام لأمرين

( الأول ) أن معناه أن أخبار الواحد يفيد الظن ، والقاعدة أن من غلب على ظنه تحريم شيء بطريق من الطرق كان ذلك الطريق يفضي إلى الحكم أم لا فإن ذلك الشيء يحرم عليه فمن غلب على ظنه طلوع الفجر في رمضان حرم عليه الأكل أو أن الطعام نجس حرم عليه أكله ، ونحو ذلك

( الأمر الثاني ) أن المرأة الواحدة لو كفت في كمال الحجة لأمره بالتفريق من أول مرة كما لو شهد عدلان لأن التنفيذ عند كمال الحجة واجب على الفور لا سيما في استباحة الفروج فلا يدل ذلك على أن الواحدة كافية في الحكم بل على أن معناه ما علمت

( الوجه الثاني ) ما روي عن علي أنه قبل شهادة القابلة وحدها في الاستهلال ، وجوابه أنه معارض بأدلتنا المتقدمة فيحمل على الفتيا جمعا بين الأدلة

( الوجه الثالث ) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { في الرضاع شهادة امرأة واحدة تجزئ } ، وجوابه أنه معارض كذلك بأدلتنا فيحمل على الفتيا إلخ

( الوجه الرابع ) القياس على الرواية ، وجوابه الفرق بينهما بأن الرواية تثبت حكما عاما في الأمصار والأعصار لا على معين فليست مظنة العداوة فلا يشترط فيها العدد فتقبل الواحدة في الرواية ، ولا تقبل في الشهادة اتفاقا .

( المسألة الثالثة ) قال مالك والشافعي وابن حنبل لا يقبل النساء في أحكام الأبدان ، وقال أبو حنيفة يقبل في أحكام الأبدان شاهد وامرأتان إلا في الجراح الموجبة للقود في النفوس والأطراف لنا وجوه :

( الأول ) قوله تعالى في مسائل المداينات { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فكان كل ما يتعلق بالمال مثله ، ومفهومه أنه لا يجوز [ ص: 157 ] في غيره فلا تجوز في أحكام الأبدان

( الثاني ) قوله تعالى في الطلاق والرجعة { وأشهدوا ذوي عدل منكم } الآية ، وهو حكم بدني فكانت الأحكام البدنية كلها كذلك إلا موضع لا يطلع عليه الرجال للضرورة في ذلك

( الثالث ) قوله عليه السلام { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } ، وهو حكم بدني فكانت الأحكام البدنية كلها كذلك ، وأما الوجوه التي احتجوا بها فثمانية

( الأول ) قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } الآية فأقام المرأتين والرجل مقام الرجلين في ذلك مطلقا لا عند عدم الشاهدين فقط إذ لا يصح الحمل عليه لجوازهما مع وجود الشاهدين إجماعا فتعين أنهما يقومان مقامهما فيكونان مرادين لقوله صلى الله عليه وسلم وشاهدي عدل لوجود الاسم ، وجوابه أن معنى الآية أنهما يقومان مقام الرجل في الحكم بدليل الرفع في لفظ رجل وامرأتين ، وليس معناها ما ذكرتم ، وإلا لقال فرجلا وامرأتين بالنصب لأنه خبر كان ويكون التقدير فإن لم يكن الشاهدان رجلين يكونا رجلا وامرأتين فلما رفع على الابتداء كان تقديره فرجل وامرأتان يقومان مقام الشاهدين بحذف الخبر

( الوجه الثاني ) قوله تعالى { فرجل وامرأتان } أطلق ، وما خص موضعا فيعم جوابه أن آخر الآية مرتبط بأولها ، وأولها { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ثم قال تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } على أنا لو سلمنا العموم خصصناه بالقياس على جراح القود بجامع عدم قبولهن منفردات ، ولأن الحدود أعلاها الزنا ، وأدناها السرقة ، ولم يقبل في أحدهما ما يقبل في الآخر فكذلك الأبدان أعلى من الأموال فلا يقبل فيها ما يقبل في الأموال ، ولأن القتل وحد القطع في السرقة وحد الخمر ليس ثبتا بالنص ، ولا بالقياس على الزنا لعدم اشتراط أربعة فيه ، ولا بالقياس على الأموال لأنها لا تثبت بالنساء فتعين قياسها على الطلاق

( والوجه الثالث ) أنها أمور لا تسقط بالشبهات فتقبل فيها النساء كالأموال ، وجوابه الفرق بينهما بأن أحكام الأبدان أعظم رتبة لأن الطلاق ونحوه لا يقبلن فيه منفردات فلا يقبلن فيه مطلقا كالقصاص ، ولأنا وجدنا النكاح آكد من الأموال لاشتراط الولاية فيه ، ولم يدخله الأجل والخيار والهبة

( والوجه الرابع ) أن النكاح والرجعة عقد منافع فيقبل فيهما النساء كالإجارات ، وجوابه أن المقصود من الإجارة المال

( والوجه الخامس ) أن الخيار والآجال ليست أموالا ، ويقبل فيهما النساء فكذلك بقية صور النزاع ، وجوابه أن المقصود منهما أيضا المال بدليل أن الأجل والخيار لا يثبتان إلا في موضع فيه المال

( والوجه السادس ) أن الطلاق رافع لعقد سابق فأشبه الإقالة ، وجوابه أن مقصود الطلاق غير المال ، ومقصود الإقالة المال على أن حل عقد لا يثبت بالنساء ، والنكول

( والوجه السابع ) أنه أي الطلاق يتعلق به تحريم كالرضاع

( والوجه الثامن ) أن العتق إزالة ملك كالبيع ، وجوابه أن الرضاع يثبت بالنساء منفردات بخلاف الطلاق والعتق ، وأيضا مآل العتق إلى غير ملك بخلاف البيع ا هـ كلام الأصل ، وسلمه أبو القاسم بن الشاط ، والله أعلم




الخدمات العلمية