الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت : أنى يكون لي غلام [ 19 \ 20 ] ، أي : كيف ألد غلاما والحال أني لم يمسسني بشر ، تعني : لم يجامعني زوج بنكاح ، ولم أك بغيا ، أي : لم أك زانية ، وإذا انتفى عنها مسيس الرجال حلالا وحراما فكيف تحمل ، والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون فيها حمل الغلام المذكور ; لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية ، ويحتمل أن يكون استفهامها تعجب من كمال قدرة الله تعالى ، وهذا الذي ذكر الله جل وعلا عنها أنها قالته هنا ذكره عنها أيضا في سورة " آل عمران " في قوله تعالى : إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين [ 3 \ 45 ] ، قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر [ 3 \ 47 ] واقتصارها في آية " آل عمران " على قولها : ولم يمسسني بشر ، يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى ، كما هو الظاهر ، وعليه فقولها في سورة " مريم " : ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا [ 19 \ 20 ] ، يظهر فيه أن قولها " ولم أك بغيا " : تخصيص بعد تعميم ; لأن مسيس البشر يشمل الحلال [ ص: 388 ] والحرام ، وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى هنا : ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه ، كقوله تعالى : من قبل أن تمسوهن [ 2 \ 273 ] ، أو لامستم النساء [ 4 \ 43 ] ، والزنى ليس كذلك ، إنما يقال فيه : فجر بها ، وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر الأول ، وآية آل عمران تدل عليه ، ويؤيده أن لفظة " بشر " نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر ، فينتفي مسيس كل بشر كائنا من كان . والبغي : المجاهرة المشتهرة بالزنى ، ووزنه فعول عند المبرد ، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي جمع عصا ودلو ، كما قدمنا هذا مرارا ، والقائل بأن أصل " البغي " فعول ، يقول : لو كان أصله " فعيلا " للحقته هاء التأنيث ; لأنها لازمة في " فعيل " بمعنى " فاعل " وقال ابن جني في كتاب التمام : أصل البغي على وزن " فعيل " ولو كان " فعولا " لقيل : بغو ، كما قيل : فلان نهو عن المنكر ، وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث ، بأن البغي وصف مختص بالإناث ، والرجل يقال فيه باغ لا بغي ، كما قاله أبو حيان في البحر ، والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض ، كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية