الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها

قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثا ثم قذفها : " ( فعليه الحد ) وكذلك إن ولدت ولدا قبل انقضاء عدتها فنفى ولدها فعليه الحد والولد ولده .

وقال ابن وهب عن مالك : ( إذا بانت منه ثم أنكر حملها لاعنها إن كان حملها يشبه أن يكون منه ، وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مقر بحملها ثم زعم أنه رآها تزني قبل أن يقاذفها حد ولم يلاعن ، وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لاعنها ) . وقال الليث : ( إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن ، ولو قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلا قبل فراقه إياها جلد الحد ولم يلاعن ) .

وقال ابن شبرمة : ( إذا ادعت المرأة حملا في عدتها وأنكر الذي يعتد منه لاعنها ، وإن كانت في غير عدة جلد وألحق به الولد ) . وقال الشافعي : ( وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنفى زوجها ولدها التعن ووقعت الفرقة وانتفى الولد ، وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن ، وإن ماتت ثم قذفها حد ولا لعان إلا أن ينفي به ولدا أو حملا فيلتعن ) .

وروى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال : ( يحد ) . وقال ابن عمر : ( يلاعن ) .

وروى الشيباني عن الشعبي قال : ( إن طلقها طلاقا بائنا فادعت حملا فانتفى منه يلاعنها ، إنما فر من اللعان ) . وروى أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار ، وإن لم تكن حاملا جلد .

وقال إبراهيم النخعي وعطاء والزهري : ( إذا قذفها بعدما بانت منه جلد الحد ) قال عطاء : ( والولد ولده ) . قال أبو بكر : قال الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة

وكان ذلك حكما عاما في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما بينا فيما سلف ، ثم نسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم والبائنة ليست بزوجة ، فعلى الذي كان زوجها الحد إذا قذفها بظاهر قوله : والذين يرمون المحصنات ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نسخ من هذه الآية ما لم يرد توقيف بنسخه ، وغير جائز نسخ [ ص: 143 ] القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم . ومن جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان ؛ إذ كان اللعان حدا على ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق .

وأيضا لم يختلفوا أنه لو قذفها بغير ولد أن عليه الحد ولا لعان ، فثبت أنه غير داخل في الآية ولا مراد ، ؛ إذ ليس في الآية نفي الولد وإنما فيها ذكر القذف ، ونفي الولد مأخوذ من السنة ولم ترد السنة بإيجاب اللعان لنفي الولد بعد البينونة .

فإن قيل : إنما يلاعن بينهما لنفي الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفي منه إلا باللعان قياسا على حال بقاء الزوجية .

قيل له : هذا استعمال القياس في نسخ حكم الآية ، وهو قوله : والذين يرمون المحصنات فلا يجوز نسخ الآية بالقياس ؛ وأيضا لو جاز إيجاب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحد عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية ، فلما كان لو قذفها بغير ولد حد ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية كذلك لا يجب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية .

فإن قيل : قال الله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقال : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فحكم تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة ما دامت في العدة ، فما أنكرت مثله في اللعان ؟ قيل له : هذا سؤال ساقط من وجوه :

أحدها : أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم ينف بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نساءه ، فحكمه موقوف على الدليل في وقوع طلاقه أو نفيه وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة ، وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن الحد بقوله : والذين يرمون المحصنات فكان موجب هذه الآية نافيا للعان ، ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف وذلك باطل ؛ ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الزوجية .

وأيضا فإن الله تعالى من حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به ثم عطف عليه قوله : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فحكم بوقوع الطلاق بعد الفدية لأن ( الفاء ) للتعقيب ، وليس معك آية ولا سنة في إيجاب اللعان بعد البينونة . وأيضا فجائز إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة ، ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس ؛ لأنه حد لا مدخل للقياس في إثباته .

وأيضا فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد وقوع البينونة ، فلا معنى لإيجاب لعان [ ص: 144 ] لا يتعلق به بينونة ؛ إذ كان موضوع اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة ، فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية ، مثل قوله : أنت خلية وبائن وبتة ونحوها ، فلما لم يجز أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية ، وليس كذلك حكم صريح الطلاق ؛ إذ ليس شرطه ارتفاع البينونة ، ألا ترى أن الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم ؟ وإنما أوجب نقصان العدد فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا لإيجاب تحريم ولا لبينونة . وأيضا فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلا لوجوب اللعان ؛ لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما وبين أزواجهما .

واختلف أهل العلم فيمن قذف امرأته ثم طلقها ثلاثا ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " إذا بانت منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان " ، وهو قول الثوري . وقال الأوزاعي والليث والشافعي : ( يلاعن ) .

وقال الحسن بن صالح : ( إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يلاعنها فماتت لزمه الولد وضرب الحد ، وإن لاعن الزوج ولم يلتعن المرأة حتى تموت ضرب الحد وتوارثا ، وإن طلقها وهي حامل وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يلاعن وضرب الحد ) . قال أبو بكر : قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة ، ثم لا يخلو إذا لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد على ما قال الحسن بن صالح ، وغير جائز إيجاب الحد إن لم يكن من الزوج إكذاب لنفسه ، وإنما سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه لم يجب الحد .

فإن قيل : لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان ، كذلك إذا قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان قيل له : حال النكاح قد يجب فيها اللعان وقد يجب فيه الحد ، ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية