الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [59] لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " اعلم أن الله تعالى لما ذكر في أول السورة قصة آدم ، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت- أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي : وفيه فوائد:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2761 ] أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات، ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخفيف ذلك على قلبه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها: التنبيه على أنه تعالى، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يهملهم، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه.

                                                                                                                                                                                                                                      ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا، وما طالع كتابا، ولا تلمذ أستاذا.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      ونوح عليه السلام هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة، وأصله من التوراة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (أرسلنا): بعثنا، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس . كذا في (اللباب). وإدريس هو أخنوخ فيما يزعمون.

                                                                                                                                                                                                                                      قاله ابن كثير : قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح ، إلا نبي قتل، وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه نظر، لأنه إنما يصح ما ذكره، لو كان نوح لقبا مع وجود اسم له غيره، واللفظ عربي، لمناسبة الاشتقاق. أما وهو اسمه الوضعي، واللفظ غير عربي، فلا. وفي كتاب (تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة) أن نوحا معناه راحة أو سلوان، فتثبت.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2762 ] وكان، قبل بعثة نوح عليه السلام، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصا في عائلة شيث عليه السلام، ثم فسد نسل شيث أيضا، واختلطوا مع الأشرار، وامتلأت الأرض من جرائمهم، وزاغوا عن الصراط المستقيم، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام، ليدلهم على طريق الرشاد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال يا قوم " أي: الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي اعبدوا الله ما لكم من إله " أي: مستحق للعبادة في الوجود غيره " ، قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة لإله، باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية، وبالجر على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، وحكم (غير)، حكم الاسم الواقع بعد (إلا)، أي: ما لكم من إله إلا إياه.

                                                                                                                                                                                                                                      إني أخاف عليكم " أي: إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره. عذاب يوم عظيم " هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.

                                                                                                                                                                                                                                      ووصف اليوم ب(العظم) لبيان عظم ما يقع فيه، وتكميل الإنذار.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: " اعبدوا الله " ؟ قلت: الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته، لأنه هو المحذور عقابه، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2763 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية