الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) : قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين ، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته ، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ، ويقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم ؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد . ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين ، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم - عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم . وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم . وقولهم : ( أيكم زادته هذه إيمانا ) يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين ، ويحتمل أن يقولوا ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق . ومعنى قولهم ذلك هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها ، كما تقول : أي غريب في هذا ؟ ! وأي دليل في هذا ؟ ! وفي الغنيان قيل : هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه . وقرأ الجمهور : ( أيكم ) [ ص: 116 ] بالرفع . وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : " أيكم " بالنصب على الاشتغال ، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كـ " هو " بعد أداة الاستفهام ، نحو : أزيدا ضربته . والتقسيم يقتضي أن الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين ، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى ، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة ، فنبهته هذه السورة على دليل زاد في أدلته ، أو عبارة عن إزالة شك يسير ، أو شبهة عارضة غير مستحكمة ، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة . وأما على قول من يسمي الطاعة إيمانا ، وذلك مجاز عند أهل السنة ، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاما . وقال الربيع : ( فزادتهم إيمانا ) أي : خشية ، أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته . وقال الزمخشري : فزادتهم إيمانا لأنها أزيد للمتقين على الثبات ، وأثلج للصدور . أو فزادتهم عملا ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ؛ لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل . انتهى . وهي نزعة اعتزالية . ( وهم يستبشرون ) بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه . وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والصحة والمرض في الأجسام ، فنقل إلى الاعتقاد مجازا ، والرجس القذر ، والرجس العذاب ، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال . وإذا كفروا بسورة ; فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم . قال قطرب والزجاج : أراد كفرا إلى كفرهم . وقال مقاتل : إثما إلى إثمهم . وقال السدي والكلبي : شكا إلى شكهم . وقال ابن عباس : أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة . وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين : زيادة الإيمان ، والاستبشار بما لهم عند الله . وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس ، والموافاة على الكفر أداهم كفرهم الأصلي ، والزيادة إلى أن ماتوا على الكفر .

( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضا في الدنيا لا يخلصون من عذابها . والضمير في ( يرون ) عائد على ( الذين في قلوبهم مرض ) ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء . وقرأ حمزة : بالتاء خطابا للمؤمنين . والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر . وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : ( أولا ترى ) أي : أنت يا محمد ؟ وعن الأعمش أيضا : ( أولم تروا ) ، وقال أبو حاتم عنه : ( أولم يروا ) . قال مجاهد : ( يفتنون ) يختبرون بالسنة والجوع . وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين . وقال الحسن وقتادة : يختبرون بالأمر بالجهاد . قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة . وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده . انتهى . وقاله مختصرا مقاتل ، قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد :


أفي كل عام مرضة ثم نقهة فحتى متى حتى متى وإلى متى



وقالت فرقة : معنى ( يفتنون ) بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأن ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك . وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى . وقال الزمخشري : ( يفتنون ) يبتلون بالمرض [ ص: 117 ] والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون . وقرأ ابن مسعود : ( ولا هم يتذكرون ) .

( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) ذكر أولا ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانيا ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء ، وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكارا للوحي وسخرية ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا ، يقولون : هل يراكم من أحد ؟ والظاهر إطلاق السورة ، أية سورة كانت . وقيل : ثم صفة محذوفة ، أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم . ( نظر بعضهم إلى بعض ) على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير . هل يراكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ ( ثم انصرفوا ) ، أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء . قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل . ( ثم انصرفوا ) إن كان حقيقة ; فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة ، أو مجازا ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي .

( صرف الله قلوبهم ) صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء ، والظاهر أنه خبر ، لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ; بدأ بالفعل المنسوب إليهم ، وهو قوله : ( ثم انصرفوا ) ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) . قال الزجاج : أضلهم . وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به . وقال ابن عباس : عن كل رشد وخير وهدى . وقال الحسن : طبع عليها بكفرهم . قال الزمخشري : ( صرف الله قلوبهم ) دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح . ( بأنهم قوم لا يفقهون ) يحتمل أن يكون متعلقا بـ ( انصرفوا ) ، أو بـ ( صرف ) ، فيكون من باب الإعمال ، أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن ، فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده .



التالي السابق


الخدمات العلمية