الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 249 ] حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العبد يطلق زوجته تطليقتين ، ثم يعتق بعد ذلك ، هل تحل له بدون زوج وإصابة ؟

روى أهل السنن : ( من حديث أبي الحسن مولى بني نوفل ، أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة ، فطلقها تطليقتين ، ثم عتقا بعد ذلك ، هل يصلح له أن يخطبها ؟ قال : نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

وفي لفظ : ( قال ابن عباس : بقيت لك واحدة ، قضى به رسول الله ) .

قال الإمام أحمد : عن عبد الرزاق ، أن ابن المبارك قال لمعمر : من أبو حسن هذا ؟ لقد تحمل صخرة عظيمة ، انتهى . قال المنذري : وأبو حسن هذا قد ذكر بخير وصلاح ، وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، غير أن الراوي عنه عمر بن معتب ، وقد قال علي بن المديني : هو منكر الحديث ، وقال النسائي : ليس بالقوي .

وإذا عتق العبد والزوجة في حباله ، مالك تمام الثلاث ، وإن عتق وقد طلقها اثنتين ، ففيها أربعة أقوال للفقهاء :

أحدها : أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره حرة كانت أو أمة ، وهذا قول الشافعي ، وأحمد في إحدى الروايتين بناء على أن الطلاق بالرجال ، وأن العبد إنما يملك طلقتين ولو كانت زوجته حرة .

والثاني : أن له أن يعقد عليها عقدا مستأنفا من غير اشتراط زوج وإصابة ، كما دل عليه حديث عمر بن معتب هذا ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وهو [ ص: 250 ] قول ابن عباس ، وأحد الوجهين للشافعية ، ولهذا القول فقه دقيق ، فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتان لنقصه بالرق ، فإذا عتق وهي في العدة ، زال النقص ، ووجد سبب ملك الثلاث ، وآثار النكاح باقية ، فملك عليها تمام الثلاث ، وله رجعتها ، وإن عتق بعد انقضاء عدتها ، بانت منه وحلت له بدون زوج وإصابة ، فليس هذا القول ببعيد في القياس .

والثالث : أن له أن يرتجعها في عدتها ، وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة ، ولو لم يعتق ، وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم ، فإن عندهم أن العبد والحر في الطلاق سواء .

وذكر سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، ( عن أبي معبد مولى ابن عباس ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عبدا له طلق امرأته تطليقتين ، فأمره ابن عباس أن يراجعها ، فأبى ، فقال ابن عباس : هي لك فاستحلها بملك اليمين ) .

والقول الرابع : أن زوجته إن كانت حرة ، ملك عليها تمام الثلاث ، وإن كانت أمة ، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا قول أبي حنيفة .

وهذا موضع اختلف فيه السلف والخلف على أربعة أقوال :

أحدها : أن طلاق العبد والحر سواء ، وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم ، حكاه عنهم أبو محمد بن حزم ، واحتجوا بعموم النصوص الواردة في الطلاق ، وإطلاقها ، وعدم تفريقها بين حر وعبد ، ولم تجمع الأمة على التفريق ، فقد صح عن ابن عباس أنه أفتى غلاما له برجعة زوجته بعد طلقتين ، وكانت أمة . وفي هذا النقل عن ابن عباس نظر ، فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، أن أبا معبد أخبره ، ( أن عبدا كان لابن عباس ، وكانت له امرأة جارية لابن عباس ، فطلقها فبتها ، فقال له ابن عباس : لا طلاق لك فارجعها ) .

[ ص: 251 ] قال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن سماك بن الفضل ، ( أن العبد سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال : لا ترجع إليها وإن ضرب رأسك ) .

فمأخذ هذه الفتوى ، أن طلاق العبد بيد سيده ، كما أن نكاحه بيده ، كما روى عبد الرحمن بن مهدي ، عن الثوري ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عطاء ، عن ( ابن عباس قال : ليس طلاق العبد ولا فرقته بشيء ) .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع ( جابر بن عبد الله يقول في الأمة والعبد : سيدهما يجمع بينهما ويفرق ) ، وهذا قول أبي الشعثاء ، وقال الشعبي : أهل المدينة لا يرون للعبد طلاقا إلا بإذن سيده ، فهذا مأخذ ابن عباس ، لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثا إذا كانت تحته أمة ، وما علمنا أحدا من الصحابة قال بذلك .

والقول الثاني : أن أي الزوجين رق كان الطلاق بسبب رقه اثنتين ، كما روى حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ( ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : الحر يطلق الأمة تطليقتين ، وتعتد بحيضتين ، والعبد يطلق الحرة تطليقتين ، وتعتد ثلاث حيض ) ، وإلى هذا ذهب عثمان البتي .

والقول الثالث : أن الطلاق بالرجال ، فيملك الحر ثلاثا . وإن كانت زوجته أمة ، والعبد ثنتين ، وإن كانت زوجته حرة ، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر كلامه ، هذا قول زيد بن ثابت ، وعائشة ، وأم سلمة أمي المؤمنين ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن عباس ، وهذا مذهب القاسم ، وسالم ، وأبي سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وأبي الزناد ، وسليمان بن يسار ، وعمرو بن شعيب ، وابن المسيب ، وعطاء .

[ ص: 252 ] والقول الرابع : أن الطلاق بالنساء كالعدة ، كما روى شعبة عن أشعث بن سوار ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ( ابن مسعود . السنة : الطلاق والعدة بالنساء ) .

وروى عبد الرزاق : عن محمد بن يحيى وغير واحد ، عن عيسى عن الشعبي ، ( عن اثني عشر من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : الطلاق والعدة بالمرأة ) ، هذا لفظه ، وهذا قول الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وإبراهيم ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، والثوري ، والحسن بن حي ، وأبي حنيفة وأصحابه .

فإن قيل : فما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة ؟ قيل : قد قال أبو داود : حدثنا محمد بن مسعود ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن مظاهر بن أسلم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( طلاق الأمة تطليقتان ، وقرؤها حيضتان ) .

وروى زكريا بن يحيى الساجي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي ، حدثنا عمر بن شبيب المسلي ، حدثنا عبد الله بن عيسى ، عن عطية ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( طلاق الأمة ثنتان ، وعدتها حيضتان ) .

[ ص: 253 ] وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال : كتب إلي عبد الله بن زياد بن سمعان ، أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، أخبره عن نافع ، ( عن أم سلمة أم المؤمنين ، أن غلاما لها طلق امرأة له حرة تطليقتين ، فاستفتت أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ) ، وقد تقدم حديث عمر بن معتب ، عن أبي حسن ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ولا يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذه الآثار الأربعة على عجرها وبجرها .

أما الأول ، فقال أبو داود : هو حديث مجهول ، وقال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث ، انتهى . وقال أبو القاسم ابن عساكر في " أطرافه " بعد ذكر هذا الحديث : روى أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنه كان جالسا عند أبيه ، فأتاه رسول الأمير ، فأخبره أنه سأل القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله عن ذلك ، فقالا هذا ، وقالا له : إن هذا ليس في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن عمل به المسلمون . قال الحافظ : فدل على أن الحديث المرفوع غير محفوظ .

وقال أبو عاصم النبيل : مظاهر بن أسلم ضعيف ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيء ، مع أنه لا يعرف ، وقال أبو حاتم الرازي : منكر الحديث . وقال البيهقي : لو كان ثابتا لقلنا به إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من نجهل عدالته .

وأما الأثر الثاني : ففيه عمر بن شبيب المسلي ضعيف ، وفيه عطية وهو ضعيف أيضا .

وأما الأثر الثالث : ففيه ابن سمعان الكذاب ، وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول .

[ ص: 254 ] وأما الأثر الرابع : ففيه عمر بن معتب ، وقد تقدم الكلام فيه .

والذي سلم في المسألة الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - والقياس .

أما الآثار ، فهي متعارضة كما تقدم ، فليس بعضها أولى من بعض ، بقي القياس ، وتجاذبه طرفان : طرف المطلق ، وطرف المطلقة . فمن راعى طرف المطلق ، قال : هو الذي يملك الطلاق ، وهو بيده ، فيتنصف برقه كما يتنصف نصاب المنكوحات برقه ، ومن راعى طرف المطلقة ، قال : الطلاق يقع عليها ، وتلزمها العدة والتحريم وتوابعها ، فتنصف برقها كالعدة ، ومن نصف برقها كالعدة ، ومن نصف برق أي الزوجين كان راعى الأمرين ، وأعمل الشبهين ، ومن كمله وجعله ثلاثا رأى أن الآثار لم تثبت ، والمنقول عن الصحابة متعارض ، والقياس كذلك ، فلم يتعلق بشيء من ذلك ، وتمسك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعي طلقتان ، ولم يفرق الله بين حر وعبد ، ولا بين حرة وأمة ، ( وما كان ربك نسيا )

قالوا : والحكمة التي لأجلها جعل الطلاق الرجعي اثنتين في الحر والعبد سواء ، قالوا : وقد قال مالك : إن له أن ينكح أربعا كالحر ، لأن حاجته إلى ذلك كحاجة الحر ، وقال الشافعي وأحمد : أجله في الإيلاء كأجل الحر ، لأن ضرر الزوجة في الصورتين سواء .

وقال أبو حنيفة : إن طلاقه وطلاق الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتين إعمالا لإطلاق نصوص الطلاق ، وعمومها للحر والعبد .

وقال أحمد بن حنبل والناس معه : صيامه في الكفارات كلها ، وصيام الحر سواء ، وحده في السرقة والشراب ، وحد الحر سواء . قالوا : ولو كانت هذه الآثار أو بعضها ثابتا ، لما سبقتمونا إليه ، ولا غلبتمونا عليه ، ولو اتفقت آثار الصحابة لم نعدها إلى غيرها ، فإن الحق لا يعدوهم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية