الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1052 - مسألة : والتذكية من الذبح ، والنحر ، والطعن ، والضرب جائزة بكل شيء إذا قطع قطعة السكين أو نفذ نفاذ الرمحسواء في ذلك كله : العود المحدد ، والحجر الحاد ، والقصب الحاد وكل شيء حاشا آلة أخذت بغير حق ، وحاشا السن ، والظفر ، وما عمل من سن ، أو من ظفر منزوعين وإلا عظم خنزير ، أو عظم حمار أهلي ، أو عظم سبع من ذوات الأربع - أو الطير حاشا الضباع - أو عظم إنسان فلا يكون حلالا ما ذبح أو نحر بشيء مما ذكرنا بل هو ميتة حرام . والتذكية جائزة بعظم الميتة وبكل عظم حاشا ما ذكرنا ، وهي جائزة بمدى الحبشة وما ذكاه الزنجي ، والحبشي ، وكل مسلم فهو حلال . فلو عمل من ضرس الفيل سهم ، أو رمح ، أو سكين : لم يحل أكل ما ذبح أو نحر به ، لأنه سن . فلو عملت من سائر عظامه هذه الآلات حل الذبح ، والنحر ، والرمي بها . وقال أبو حنيفة ، ومالك : التذكية بكل ذلك حلال حاشا السن قبل أن ينزع من الفم ، وحاشا الظفر قبل أن ينزع من اليد ، فإنه لا يؤكل ما ذبح بهما لأنه خنق لا ذبح . وقال الشافعي : كل ما ذكي بكل ما ذكرنا فحلال أكله حاشا ما ذكي بشيء من الأظفار كلها ، والعظام كلها ، منزوع كل ذلك أو غير منزوع ، فلا يؤكل وهو قول الليث بن سعد . [ ص: 138 ] وقال أبو سليمان : كقول الشافعي سواء سواء إلا أنه قال : لا يؤكل ما ذبح أو نحر أو رمي بآلة مأخوذة بغير حق - فأما قول أبي حنيفة ، ومالك فلا نعلمه عن أحد قبلهما ولا نعلم لهما فيه سلفا من أهل العلم ، ولا حجة أصلا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قياس ; بل هو خلاف السنة على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى - فسقط هذا القول جملة ، وبقي قولنا ، وقول الشافعي ، والليث ، وأبي سليمان - : فوجدنا ما روينا من طريق سفيان الثوري حدثني أبي عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده { رافع بن خديج قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر ، وسأحدثك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة } . وقد ذكرناه في أول كلامنا في التذكية بإسناده . فأما نحن فتعلقنا بنهيه عليه السلام ولم نتعده ولم نحرم إلا ما ذبح أو رمي بسن أو ظفر فقط ، ولم نجعل العظيمة سببا للمنع من الذكاة إلا حيث جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا لذلك ، وهو السن ، والظفر فقط . وإنما منعنا من التذكية بعظام الخنزير ، والحمار الأهلي ، أو سباع ذوات الأربع ، أو الطير لقوله تعالى في الخنزير : { فإنه رجس } { ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية فإنها رجس } فهي كلها رجس ، والرجس واجب اجتنابه ، ولا يحل إمساكها إلا حيث أباحها نص ، وليس ذلك إلا ملكها وركوبها واستخدامها وبيعها وابتياعها يعني الحمر فقط . ومنعنا من التذكية بعظام سباع ذوات الأربع ، والطير لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها جملة على ما ذكرنا قبل فلم نحل منها إلا ما أحله النص من تملكها للصيد بها وابتياعها لذلك فقط وإلا فهي حرام وبعض الحرام حرام . وأما عظم الإنسان فلأن مواراته فرض كافرا كان أو مؤمنا . وأبحنا التذكية بعظام الميتة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما حرم من الميتة أكلها } وحرم عليه السلام بيعها والدهن بشحمها ، فلا يحرم من الميتة شيء إلا ذلك ولا مزيد . واحتج الشافعي وأصحابنا { بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عظم } فجعل العظمية علة [ ص: 139 ] للمنع من التذكية حيث كان العظم أو أي عظم كان - : قال أبو محمد : وهذا خطأ لأنه تعد لحدود الله تعالى وحدود رسوله عليه السلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد ذلك لما عجز عن أن يقول : ليس العظم والظفر ، وهو عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم وأمر عليه السلام بالبيان . فلو أنه عليه السلام أراد تحريم الذكاة بالعظم لما ترك أن يقوله ولا استعمل التحليق والإكثار بلا معنى في الاقتصار على ذكر السن ، فهذا هو التلبيس والإشكال لا البيان ، ونحن وهم على يقين من أنه عليه السلام حكم بأن المنع من التذكية بالسن إنما هو من أجل كونه عظما ، ونحن موقنون بأنه عليه السلام لو أراد كل عظم لما سكت عن ذلك فقد زادوا في حكمه عليه السلام ما لم يحكم به . وأيضا فقد تناقضوا في هذا الخبر نفسه ، لأنه عليه السلام جعل السبب في منع التذكية بالظفر إنما هو كونه مدى الحبشة فيلزمهم أن يطردوا أصلهم فيمنعوا التذكية بمدى الحبشة من أي شيء كانت وإلا فقد تناقضوا فإن ادعوا ههنا إجماعا كانوا كاذبين قائلين ما لا علم لهم به . وقد روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كره ذبيحة الزنجي . وأما نحن فلا نجعل كون ما يذكى به من مدى الحبشة سببا لتحريم أكله إلا في الظفر وحده ، حيث جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل العظمية سببا لتحريم أكل ما ذكي بما هي فيه إلا في السن وحده ، حيث جعله رسول الله عليه السلام ، وهذا في غاية البيان والوضوح - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وقد روي نحو قولهم عن بعض السلف - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال : يذبح بكل شيء غير أربعة السن ، والظفر ، والعظم ، والقرن . ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن قال : كل ما فرى الأوداج وأهراق الدم ، إلا الظفر ، والناب ، والعظم . وروي نحو قولنا عن بعض السلف أيضا - : [ ص: 140 ] كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو معاوية نا الأعمش عن إبراهيم قال : ما فرى الأوداج فكل إلا السن ، والظفر . ومن طريق سعيد بن منصور نا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي قال : كان يكره الناب والظفر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وخالف الحنفيون ، والمالكيون هذه السنة بآرائهم ، وليس في العجب أعجب من إخراجهم العلل الكاذبة الفاسدة المفتراة : من مثل تعليل الربا بالادخار والأكل ، وتعليل مقدار الصداق بأنه عوض ما يستباح به العضو ، وسائر تلك العلل السخيفة الباردة المكذوبة ، ثم يأتون إلى ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سببا لتحريم أكل ما ذكي به بقوله فإنه عظم وإنه مدى الحبشة ولا يعللون بهما بل يجعلونه لغوا من الكلام ويخرجون من أنفسهم علة كاذبة سخيفة وهي الخنق . ونسألهم عمن أطال ظفره جدا وشحذه ورققه حتى ذبح به عصفورا صغيرا فبري كما تبرى السكين أيؤكل أم لا ؟ فإن قالوا : لا ، تركوا علتهم في الخنق . وإن قالوا : يؤكل ، تركوا قولهم في الظفر المنزوع . فإن ذكروا ما رويناه عن شعبة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله } . قلنا : هذا خبر ساقط ، لأنه عن سماك بن حرب وهو يقبل التلقين عن مري بن قطري - وهو مجهول - ثم لو صح لكان خبر رافع بن خديج زائدا عليه تخصيصا يلزم إضافته إليه ولا بد ليستعمل الخبرين معا .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا ما روينا من طريق معمر عن عوف عن أبي رجاء العطاردي قال : سألت ابن عباس عن أرنب ذبحتها بظفري ؟ فقال : لا تأكلها فإنها المنخنقة ، وفي بعض الروايات إنما قتلتها خنقا ، فلا حجة لهم فيه لوجهين - : أحدهما : أن لا حجة فيمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنه حجة عليهم وخلاف قولهم ; لأن ابن عباس لم يشترطه منزوعا من غير منزوع . [ ص: 141 ] وأما منعنا من أكل ما ذبح أو نحر أو رمي بآلة مأخوذة بغير حق فلقول الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . ولا شك في أن ما ذبح أو نحر بآلة مأخوذة بغير حق ، فبالباطل تولى ذلك منه ، وإذا هو كذلك بيقين فبالباطل يؤكل ، وهذا حرام بالنص . وأيضا فإن الذكاة فعل مفترض مأمور به طاعة لله عز وجل ، واستعمال المأخوذة بغير حق في الذبح ، والنحر ، والرمي : فعل محرم معصية لله تعالى . هذان قولان متيقنان بلا خلاف ، فإذ هو كذلك فمن الباطل البحت ، والكذب الظاهر أن تنوب المعصية عن الطاعة وأن يكون من عصى الله تعالى ولم يفعل ما أمر به مؤديا لما أمر به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية