الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم ; لأن تحريمه بالحيض ، وقد زال . ولا تحل الصلاة والطواف وقراءة القرآن وحمل المصحف ; لأن المنع منها للحدث والحدث باق ، ولا يحل الاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } . قال مجاهد : حتى يغتسلن ، [ ص: 395 ] فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل ; لأن التيمم قائم مقام الغسل فاستبيح به ما يستباح بالغسل ، فإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها ، ومن أصحابنا من قال : يحرم وطؤها بفعل الفريضة ، كما يحرم فعل الفريضة بعدها ، والأول أصح ; لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : يتعلق بالحيض أحكام : ( أحدها ) : يمنع صحة الطهارة إلا أغسال الحج ونحوها مما لا يفتقر إلى الطهارة ( الثاني ) : تحرم الطهارة بنية العبادة إلا ما استثنينا من أغسال الحج ونحوها ، ( الثالث ) : يمنع وجوب الصلاة ( الرابع ) : يحرمها ( الخامس ) : يمنع صحتها ( السادس ) : يمنع وجوب الصوم ( السابع ) : يحرمه ( الثامن ) : يمنع صحته ( التاسع ) : يحرم مس المصحف وحمله وقراءة القرآن والمكث في المسجد ، وكذا العبور على أحد الوجهين ( العاشر ) : يحرم سجود التلاوة والشكر ويمنع صحته ( الحادي عشر ) : يحرم الاعتكاف ويمنع صحته .

                                      ( الثالث عشر ) : يمنع وجوب طواف الوداع ( الرابع عشر ) : يحرم الوطء ، وكذا المباشرة بين السرة والركبة على أحد الأوجه ( الخامس عشر ) : يحرم الطلاق ( السادس عشر ) : تبلغ به الصبية ( السابع عشر ) : تتعلق به العدة والاستبراء ( الثامن عشر ) : يوجب الغسل ، وهل يجب بخروجه أم بانقطاعه أم بهما ؟ فيه أوجه سبقت في باب ما يوجب الغسل . ومعظم هذه الأحكام مجمع عليه .

                                      قال أصحابنا : فإذا طهرت من الحيض ارتفع من هذه الأمور المحرمة تحريم الصوم والطلاق والظهار ، وارتفع أيضا تحريم العبور في المسجد على الأصح ، إذا قلنا بتحريمه في زمن الحيض ، وقد سبق حكاية وجه عن حكاية صاحب الحاوي وإمام الحرمين أن العبور يبقى تحريمه حتى تغتسل وليس بشيء ، ولا يرتفع ما حرم للحدث كالصلاة والطواف ، والسجود والقراءة ، والاعتكاف ومس المصحف والمكث في المسجد ، ولا يرتفع أيضا تحريم الجماع والمباشرة بين السرة والركبة ، فإن لم تجد الماء فتيممت استباحت جميع ذلك ; لأن التيمم كالغسل . [ ص: 396 ] قال أصحابنا : : إذا تيممت ثم أحدثت لم يحرم وطؤها بلا خلاف ، وممن نقل اتفاق الأصحاب على هذا القاضي أبو الطيب ; لأنها استباحت الوطء بالتيمم ، والحدث لا يحرم الوطء كما لو اغتسلت ثم أحدثت .

                                      قال القاضي : ولأنا لو قلنا : يحرم الوطء بعد الحدث لأدى إلى تحريمه ابتداء بعد التيمم ; لأنه ينتقض الوضوء بالتقاء البشرتين قبل الوطء . وأما إذا تيممت ثم رأت الماء فيحرم الوطء على المذهب ، وبه قطع الأصحاب في الطريقتين ; لأن طهارتها بطلت برؤية الماء وعادت إلى حدث الحيض . وحكى الدارمي وجها شاذا أنه يحل الوطء بعد رؤية الماء ، والصواب الأول . قال القاضي أبو الطيب : فلو رأت الماء في خلال الجماع نزع في الحال واغتسلت ، وأما إذا تيممت وصلت فريضة فهل يصح الوطء بعد الفريضة بذلك التيمم ؟ أم لا يحل إلا بتيمم جديد ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، وقد ذكر دليلهما ، الصحيح : جوازه . ولو تيممت فوطئها ثم أراد الوطء ثانيا بذلك التيمم ففي جوازه وجهان حكاهما صاحب الحاوي وغيره ، الصحيح : جوازه لارتفاع حدث الحيض بالتيمم ، وبهذا قطع الجمهور ، والثاني : لا يجوز إلا بتيمم جديد كما لا يجمع بين فريضتين بتيمم ، وهذا ليس بشيء . ولو تيممت وصلت فريضة وقلنا : : يجوز الوطء بعدها فلم يطأ حتى خرج وقت تلك الفريضة فهل يحل الوطء بذلك التيمم ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد المحاملي في كتابيه والفوراني وغيرهم في آخر باب التيمم ، وحكاهما أيضا صاحب الحاوي وآخرون .

                                      الصحيح جوازه ; لأن خروج الوقت لا يزيد على الحدث . والثاني : لا يجوز الوطء إلا بتيمم جديد قال صاحب الحاوي : وبه قال ابن سريج واختاره الشيخ أبو حامد ; لأن دخول الوقت رفع حكم التيمم ، ولهذا تجب إعادته للصلاة الأخرى ، وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل ; لأن التيمم لا يبطل بخروج الوقت ، ولهذا له أن يصلي به ما شاء من النوافل على المذهب كما سبق ، ولو عدمت الماء والتراب صلت الفريضة لحرمة الوقت كما سبق ، ولا يجوز الوطء حتى تجد أحد الطهورين . هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور ، وحكى الجرجاني في المعاياة وصاحب البيان والرافعي وجها شاذا أنه يجوز الوطء كالصلاة ، وهذا ليس بشيء . [ ص: 397 ] قال أصحابنا : والمقيمة في هذا كالمسافرة ، فإذا عدمت المقيمة الماء أو كانت مريضة أو جريحة فتيممت على الوطء ، وإن كان صلاتها يجب قضاؤها ; لأن طهارتها صحيحة والله أعلم



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في وطء الحائض إذا طهرت قبل الغسل قد ذكرنا أن مذهبنا تحريمه حتى تغتسل أو تتيمم ، حيث يصح التيمم وبه قال جمهور العلماء . كذا حكاه الماوردي عن الجمهور ، وحكاه ابن المنذر عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة ومالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، ثم قال ابن المنذر : وروينا بإسناد فيه مقال عن طاوس وعطاء ومجاهد أنهم قالوا : إن أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ ثم أصابها إن شاء . قال ابن المنذر : وأصح من هذا عن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول ، قال : ولا يثبت عن طاوس خلاف قول سالم ، قال : فإذا بطل أن يصح عن هؤلاء قول ثان كان القول الأول كالإجماع .

                                      هذا كلام ابن المنذر . وقال أبو حنيفة : إن انقطع دمها لأكثر الحيض - وهو عشرة أيام عنده - حل الوطء في الحال - وإن انقطع لأقله لم يحل حتى تغتسل أو تتيمم ، فإن تيممت ولم تصل لم يحل الوطء حتى يمضي وقت صلاة . وقال داود الظاهري : إذا غسلت فرجها حل الوطء . وحكي عن مالك تحريم الوطء إذا تيممت عند فقد الماء . هكذا نقل أصحابنا وغيرهم هذا الخلاف مطلقا كما ذكرته ، وقال ابن جرير : أجمعوا على تحريم الوطء حتى تغسل فرجها ، وإنما الخلاف بعد غسله ، واحتج لأبي حنيفة بأنه يجوز الصوم والطلاق وكذا الوطء ; ولأن تحريم الوطء هو للحيض وقد زال وصارت كالجنب ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } وقد روي حتى يطهرن بالتخفيف والتشديد ، والقراءتان في السبع ، فقراءة التشديد صريحة في اشتراط الغسل ، وقراءة التخفيف يستدل بها من وجهين ( أحدهما ) : معناها أيضا يغتسلن ، وهذا شائع في اللغة فيصار إليه جمعا بين القراءتين ( والثاني ) : أن الإباحة معلقة بشرطين [ ص: 398 ] أحدهما : انقطاع دمهن . والثاني : تطهرهن وهو اغتسالهن ، وما علق بشرطين لا يباح بأحدهما ، كما قال الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فإن قيل : ليستا شرطين بل شرط واحد ، ومعناه حتى ينقطع دمهن ، فإذا انقطع فأتوهن ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فكلمه ، فالجواب من أوجه ( أحدها ) : أن ابن عباس والمفسرين وأهل اللسان فسروه فقالوا : معناه فإذا اغتسلن . فوجب المصير إليه ( والثاني ) : أن ما قاله المعترض فاسد من جهة اللسان ، فإنه لو كان كما قال لقيل : فإذا طهرن ، فأعيد الكلام ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يدخل ، فإذا دخل فكلمه ، فلما أعيد بلفظ آخر دل على أنهما شرطان ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يأكل ، فإذا أكل فكلمه .

                                      ( الثالث ) أن فيما قلنا جمعا بين القراءتين فتعين ، واحتج أصحابنا بأقيسة كثيرة ومناسبات ، أحسنها ما ذكره إمام الحرمين في الأساليب ، فقال : أولى متمسك من طريق المعنى اعتبار صورة الاتفاق ، فنقول : اتفقنا على التحريم إذا طهرت لدون العشرة فاستمرار التحريم بعد انقطاع الدم إن علل بوجوب غسل الحيض لزم التحريم إذا طهرت لأكثر الحيض ، وإن علل بإمكان عود الدم فهو منتقض بما إذا اغتسلت أو تيممت أو خرج وقت الصلاة ، ثم ذكر معاني أخر ، ثم قال : فالوجه : اعتماد ما ناقضوا فيه ، وكل ما ذكروه منتقض بما سلموه فإن قيل : تحريم الوطء بالحيض غير معلل ، قلنا : وجوب الغسل بالانقطاع غير معلل ، ولا يمكن أن يقال : عادت إلى ما كانت فإن الغسل واجب ، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن ; لانسداد طريق النظر ، فظاهر القرآن تحريم الوطء حتى تغتسل ، وأما الجواب عن جواز الصوم : أن الشرع ورد بتحريم الصوم على الحائض ، وهذه ليست بحائض وهنا حرم الوطء حتى تغتسل . وعن الطلاق : أن تحريمه لتطويل العدة ، وذلك يزول بمجرد الانقطاع . وعن قولهم : التحريم للحيض من أوجه .

                                      ( أحدها ) : لا نسلم ، بل هو لحدث الحيض ، وهو باق ( الثاني ) : أنه ينتقض بالانقطاع لدى أكثر الحيض ( الثالث ) : أن الجنابة لا تمنع الوطء ، وكذا غسلها بخلاف الحيض ، والله أعلم



                                      [ ص: 399 ] فرع ) قال أبو العباس الجرجاني في المعاياة : ليست امرأة تمنع من الصلاة بحكم الحيض إلا ويحرم وطؤها إلا واحدة ، وهي من انقطع دمها وعدمت الماء فتيممت ثم أحدثت ، فإنها تمنع من الصلاة دون الوطء هذا كلامه .

                                      وقد ينازع فيه ويقال : المنع من الصلاة هنا للحدث قال : وانقطاع الدم إذا أباح الصلاة أباح الوطء إلا في حق من عدمت الماء والتراب فتصلي ، ولا يحل وطؤها على الصحيح .



                                      ( فرع ) : لو أراد الزوج أو السيد الوطء فقالت : أنا حائض ، فإن لم يمكن صدقها لم يلتفت إليها وجاز الوطء .

                                      وإن أمكن صدقها ، ولم يتهمها بالكذب حرم الوطء ، وإن أمكن الصدق ، ولكن كذبها ، فقال القاضي حسين في تعليقه وفتاويه وصاحب التتمة : يحل الوطء ; لأنها ربما عاندته ومنعت حقه ; ولأن الأصل عدم التحريم ولم يثبت سببه . وقال الشاشي : ينبغي أن يحرم وإن كانت فاسقة ، كما لو علق طلاقها على حيضها فيقبل قولها ، والمذهب الأول ، وفرق القاضي بينه وبين تعليق الطلاق : بأن الزوج مقصر في تعليقه بما لا يعرف إلا من جهتها .

                                      قال القاضي وغيره : ولو اتفقا على الحيض وادعى انقطاعه وادعت بقاءه في مدة الإمكان فالقول قولها ، بلا خلاف للأصل .



                                      ( فرع ) لو طهرت زوجته أو أمته المجنونة من الحيض حرمت عليه حتى يغسلها ، فإذا صب الماء عليها ونوى غسلها عن الحيض حلت ، وإن لم ينو فوجهان سبقا في باب نية الوضوء . ولو شك هل حاضت المجنونة أو العاقلة أم لا ؟ لم يحرم ; لأن الأصل عدم التحريم وعدم الحيض .

                                      ( فرع ) إذا ارتكبت المرأة من المحرمات المذكورة أثمت وتعزر وعليها التوبة ، ولا كفارة عليها بالاتفاق . صرح به الماوردي وغيره ; لأن الأصل البراءة .



                                      ( فرع ) يجوز عندنا وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر ، وإن كان الدم جاريا ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري : وهو قول أكثر العلماء ، ونقله ابن المنذر في الإشراف عن ابن عباس وابن المسيب والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة [ ص: 400 ] وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المزني والأوزاعي ومالك والثوري وإسحاق وأبي ثور .

                                      قال ابن المنذر : وبه أقول . وحكي عن عائشة والنخعي والحكم وابن سيرين منع ذلك ، وذكر البيهقي وغيره : أن نقل المنع عن عائشة ليس بصحيح عنها ، بل هو قول الشعبي أدرجه بعض الرواة في حديثها ، وقال أحمد : لا يجوز الوطء إلا أن يخاف زوجها العنت ، واحتج للمانعين بأن دمها يجري فأشبهت الحائض ، واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي في الأم ، وهو قول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } وهذه قد تطهرت من الحيض . واحتجوا أيضا : بما رواه عكرمة عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها " أنها كانت مستحاضة ، وكان زوجها يجامعها .

                                      " رواه أبو داود وغيره بهذا اللفظ بإسناد حسن ، وفي صحيح البخاري قال : قال ابن عباس : " المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت ، الصلاة أعظم ; " ولأن المستحاضة كالطاهر في الصلاة والصوم والاعتكاف والقراءة وغيرها ، فكذا في الوطء ; ولأنه دم عرق ، فلم يمنع الوطء كالناسور ; ولأن التحريم بالشرع ولم يرد بتحريم ، بل ورد بإباحة الصلاة التي هي أعظم كما قال ابن عباس . والجواب عن قياسهم على الحائض : أنه قياس يخالف ما سبق من دلالة الكتاب والسنة فلم يقبل ; ولأن المستحاضة لها حكم الطاهرات في غير محل النزاع فوجب إلحاقه بنظائره لا بالحيض الذي لا يشاركه في شيء .




                                      الخدمات العلمية