الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6515 [ ص: 475 ] 29 – باب: العجماء جبار

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيرين : كانوا لا يضمنون من النفحة ، ويضمنون من رد العنان . وقال حماد : لا تضمن النفحة إلا أن ينخس إنسان الدابة . وقال شريح : لا تضمن ما عاقبت أن يضربها فتضرب برجلها . وقال الحكم وحماد : إذا ساق المكاري حمارا عليه امرأة فتخر ، لا شيء عليه . وقال الشعبي : إذا ساق دابة فأتعبها فهو ضامن لما أصابت ، وإن كان خلفها مترسلا لم يضمن .

                                                                                                                                                                                                                              6913 - حدثنا مسلم ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" العجماء عقلها جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس " . [ انظر : 1499 - مسلم : 1710 - فتح 12 \ 256 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق الحديث بسند آخر غير ما سلف من حديث شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" العجماء عقلها جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار ، وفي الركاز الخمس " . وقد سلف شرحه في الزكاة واضحا .

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر ابن سيرين فأخرجه ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، ثنا سفيان ، ( عن عاصم ، عنه . وأثر حماد أخرجه أيضا عن غندر ، عن شعبة ) قال : سألت الحكم وحمادا عن رجل واقف على دابة ، فضربت برجلها . فقال حماد : لا يضمن . وقال الحكم : يضمن وأثر شريح أخرجه أيضا عن أبي خالد ، عن الأشعث ، عن ابن سيرين ، عنه . وأثر الشعبي أخرجه أيضا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 476 ] ( عن هشيم ) ، عن إسماعيل بن سالم ، عنه به . قال : وثنا أبو خالد الأحمر ، عن أشعث ، عنه بلفظ : صاحب الدابة ضامن لما أصابت الدابة بيدها أو برجلها حتى ينزل عنها .

                                                                                                                                                                                                                              وفي " علل أبي حاتم " : سألت أبي عن حديث رواه بقية ، عن عيسى بن عبد الله ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير مرفوعا :" من ربط دابته على الطريق فما أصابت الدابة برجلها فهو له ضامن " فقال : هذا حديث باطل ، إنما يرويه إسماعيل عن الشعبي ، عن شريح . هذا الكلام من قبله ، وعيسى لم يدرك ابن أبي خالد وهو ذاهب الحديث مجهول ، روى عنه الوليد بن مسلم وبقية .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو داود من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا :" والنار جبار " قال الدارقطني : عن معمر ، لا أراها إلا وهما .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد : ليس بشيء ، لم يكن في الكتب وهو باطل ، وليس بصحيح ، قال : وأهل اليمن يكتبون النار : النير ، ويكتبون البئر مثل ذلك ، وإنما لقن عبد الرازق " والنار جبار " وغيره أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 477 ] وقال يحيى بن معين كما نقله ابن عبد البر في " استذكاره " : أصله البئر ، ولكن معمرا صحفه . قال ابن عبد البر : لم يأت يحيى على هذا بدليل ، وليس هكذا ترد الأحاديث الثقات .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين ، عن يحيى بن يحيى الغساني أن عمر بن عبد العزيز قضى أن النار جبار .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              روى الدارقطني من حديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا :" والرجل جبار " .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : قال قوم : سفيان ضعيف في الزهري ، ولا ندري ما وجه هذا ، سفيان ثقة ومن ادعى عليه خطأ فليبينه وإلا فروايته حجة ، وهذا إسناد مستقيم لاتصال الثقات فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الدارقطني : لا يتابع سفيان على قوله :" الرجل " وهو وهم ، لأن الثقات الذين قد بينا أحاديثهم منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل والليث بن سعد ، خالفوه لم يذكروا ذلك . وكذلك رواه عن أبي هريرة أبو صالح السمان والأعرج ( ومحمد بن زياد ) ومحمد بن سيرين وغيرهم عنه ، لم يذكروا فيه " الرجل " : وهو المحفوظ عن أبي هريرة والصواب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 478 ] قلت : وقد ذكره بعد من حديث آدم ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة مرفوعا :" الدابة جرحها جبار ، والرجل جبار " الحديث . ثم قال : لم يروه عن شعبة غيره ، قوله " الرجل جبار " وفي موضع آخر : كذا قال :" الرجل جبار " ولم يتابعه أحد عن شعبة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : لا يصح " الرجل جبار " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا ، وقال : هكذا مر أنه غلط . وقال في موضع آخر : إنه خطأ .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عبد البر : إنه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وأخرجه الدارقطني من طريق آخر عن عبد الله مرفوعا :" العجماء جرحها جبار والبئر جبار " قال " كل جبار " . أخرجه مرة من حديث محمد بن طلحة ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن هزيل ، عن عبد الله - أظنه مرفوعا - فذكره . ومرة من حديث أحمد بن عبيد بن إسحاق ثنا أبي ، عن قيس ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن هزيل ، عن عبد الله ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشك . ورواه عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي قيس ، عن هزيل مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 479 ] قال ابن القصار : فإن صح فمعناه : الرجل جبار بهذا الحديث ، وتكون اليد جبارا قياسا على الرجل إذا كان ذلك بغير سبب ولا صنعه ، وقال - عليه السلام - :" العجماء جبار " ولم يخص يدا من رجل ، فهو على العموم .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : ومن اعتل أنه لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقها لا يرى يدها ، فينبغي أن يلزمه في القياس أن يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              ولحديث الباب طريق آخر من حديث علي . ( قال ابن أبي حاتم في " علله " : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ) رواه مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" المعدن جبار " الحديث . فقالا : هو خطأ ، وهو عن الشعبي ، عن جابر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                              وطريق آخر أخرجه ابن أبي عاصم من حديث سالم ، عن أبيه ، عن عامر بن ربيعة أنه - عليه السلام - قال :" العجماء جرحها جبار " .

                                                                                                                                                                                                                              ومن طريق آخر أخرجه ابن ماجه من طريق خالد بن مخلد ، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" العجماء جرحها جبار ، والمعدن جبار " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 480 ] وطريق آخر أخرجه ابن ماجه أيضا من حديث موسى بن عقبة ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادة بن الصامت قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المعدن جبار والبئر جبار .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              نقلنا في الزكاة إجماع العلماء على أن جناية البهائم نهارا لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد ، فإن كان معها أحد فجمهور العلماء على الضمان ، وكذا قال ابن المنذر : أجمع العلماء أنه ليس على صاحب الدابة المنفلتة ضمان فيما أصابت .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن العجماء إذا جنت جناية نهارا ، أو جرحت جرحا لم يكن لأحد فيه سبب أنه هدر ، ولا دية فيه على أحد ولا أرش .

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في المواشي يهملها صاحبها ولا يمسكها ليلا ، فتخرج فتفسد زرعا أو كرما ، أو غير ذلك من ثمار الحوائط والأجنة وخضرها على ما في حديث ابن شهاب ، عن حرام بن محيصة - يعني : الذي أسلفته هناك - ولا خلاف بينهم أن ما أفسدت المواشي وجنته نهارا من غير سبب آدمي أنه هدر من الزرع وغيره ؛ إلا ما روي عن مالك وبعض أصحابه في الدابة الضارية المعتادة الفساد ، وأما السائق لها أو الراكب أو القائد فإنهم عند جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين ضامنون لما جنت ( الدابة ) من أجلهم وبسببهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 481 ] وخالف أهل الظاهر كما سلف ، وأنه لا يضمن إلا الفاعل القاصد .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر : ولا خلاف علمته أن ما جنت يد الإنسان خطأ من الأموال أن يضمنه في ماله ، فإن كان دما فعلى العاقلة ( تسليما ) للسنة المجمع عليها . وفي معنى ما أجمعوا يبطل قول أهل الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن عمر أنه ضمن الذي أجرى فرسه عقل ما أصاب الفرس ، وعن شريح أنه كان يضمن الفارس ما أوطأته دابته بيد أو رجل ، ويبرئ من النفحة .

                                                                                                                                                                                                                              قال إسماعيل القاضي : وقاله النخعي والحسن ؛ وذلك لأن الراكب كان سببه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : إذا كان الرجل راكبا فما أصابت بيدها أو رجلها أو فمها أو ذنبها من نفس أو جرح فهو ضامن ؛ لأن عليه منعها في تلك الحال ، قال : وكذلك إذا كان سائقا أو قائدا ، وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وكذلك الإبل المقطرة بالبعير ولا قائد لها ، ولا يجوز في هذا إلا في ضامن كل ما أصابت الدابة تحت الراكب أو لا يضمن إلا ما حملها عليه . لا يصح إلا أحد هذين القولين ، فأما من ضمن من يدها ولم يضمن من رجلها فهو تحكم . ولو أوقفها في موضع ليس له أن يوقفها فيه ضمن ، ولو أوقفها في ملكه لم يضمن . فإن كان في بيته كلب عقور فدخل إنسان فقتله لم يكن عليه شيء . قال المزني : سواء عندي أذن لذلك الإنسان أن يدخل أو لم يأذن .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 482 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان على أصحاب البهائم فيما تفسد وتجني في الليل والنهار ، إلا أن يكون راكبا أو سائقا أو قائدا أو مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                              وقول الليث والأوزاعي في هذا الباب كله كقول مالك : لا يضمن ما أصابته الدابة برجلها من غير صنعه ، ويضمن ما أصابت بيدها أو مقدمها إذا كان راكبا عليها أو سائقا أو قائدا .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : من فرق بين الرجل والقدم في راكب الدابة أو سائقها أو قائدها فحجته أنه يمكنه التحفظ من جناية فمها ويدها إذا كان راكبا أو قائدا ، ولا يمكنه ذلك من رجلها ، ومن حجته أيضا ما تقدم من أن " الرجل جبار " . أي : على ما في إسناده .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ولا أعلم خلافا عن مالك وأصحابه وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق ، من وقف دابته في موضع ليس له ( أن يوقفها فيه ، ولا يجوز له ذلك من ضيق أو غير ذلك بما ليس له أن يفعله فجنت جناية أنه ضامنها ، فإن وقفها في موضع يعرف الناس أن مثله توقف الدواب فيه مثل دابته . قال ابن حبيب : نحو دار نفسه أو باب المسجد أو دار العالم أو القاضي وشبهه ، فلا ضمان عليه فيما جنت .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : واختلف في معنى قوله :" والرجل جبار " فقالت طائفة : معناه : ما أصابت الدابة برجلها ، وهذا أسلفته ، وقال آخرون :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 483 ] هو ما أصيب بالرجل من غير قصد في الطواف وغيره ، وحكي ذلك عن بعض السلف . وروى ابن عيينة ، عن أبي فروة ، عن عروة بن الحارث ، عن الشعبي قال : الرجل جبار .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              معنى قوله :" البئر جبار " أنه لا ضمان على رب البئر وحافرها إذا سقط فيها إنسان أو دابة أو غير ذلك ، فتلف أو عطب . هذا إذا كان حافر البئر قد حفرها في موضع يجوز له أن يحفرها فيه ، مثل أن يحفرها بفنائه أو في ملكه أو داره أو في صحراء الماشية ، أو طريق واسع محتمل ، ونحو ذلك ، وهو قول مالك والشافعي وداود وأصحابهم ، وقول الليث بن سعد .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القاسم عن مالك : إن حفر في داره بئرا لسارق يرصده ليقع فيه أو وضع له حبالات أو شيئا يتلف به السارق ، فدخل السارق فعطب فهو ضامن ، ووجه ذلك أنه لم يحفرها لمنفعة ، وإنما حفرها قصدا ليعطب غيره فصار جانيا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الليث والشافعي : لا ضمان عليه في مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وحكي عن العراقيين من أصحاب مالك أنه يقتل بالسارق ، [ و ] إن وقع فيه ( غيره ) ، كانت الدية على عاقلته . وقالوا : ضبط مذهب مالك أن إنسانا لو طرح قشورا في الطريق فقصد الهلاك والإتلاف فمات فيه أحد فعليه القود .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 484 ] وإنما قال مالك في حافر البئر في الطريق أو يربط دابته فيما لا يجوز له أنه ضامن ؛ لأنه لم يفعله لقتل أحد . وفي رواية ابن وهب عن مالك فيمن برد قصبا أو عيدانا يجعلها على بابه لتدخل في رجل الداخل سارق أو غيره أنه يضمن ، وإنما جعل فيه الدية ؛ لأنه جعله في ملكه . وقال الشافعي وأبو حنيفة وصاحباه : له أن يحدث في الطريق ما لا يضر به ، قالوا : وهو ضامن لما أصابه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وقوله - عليه السلام - :" البئر جبار " يدفع الضمان عن ربها في كل ما يسقط فيها بغير صنع آدمي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد : وقوله :" البئر جبار " هي البئر العادية القديمة التي لا يعرف لها حافر ولا مالك ، تكون في البوادي يقع فيها شيء ، فذلك هدر إذا حفرها في ملكه أو حيث يجوز له حفرها فيه ؛ لأنه صنع من ذلك ما يجوز له فعله .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : والذي يجوز له من ذلك البئر يحفرها للمطر ، والدابة ينزل عنها الرجل لحاجة فيقفها على الطريق ، فليس على أحد في هذا غرم ، وإنما يضمن ( إذا فعل ) من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه على الطريق ، فما أصابت من جرح أو غيره ، وكان عقله دون ثلث الدية فهو في ماله ، وما بلغ الثلث فصاعدا فهو على العاقلة ، وبهذا كله قال الشافعي وأبو ثور ، وخالف في ذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا : من حفر بئرا في موضع يجوز له ذلك فيه ، أو وقف فيه دابة ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 485 ] فليس يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه ، كراكب الدابة يضمن ما عطب منها وإن كان له أن يركبها أو يسير عليها . وهذا خلاف للحديث ، ولا قياس مع النصوص .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : معنى الحديث أن من حفر بئرا أو نزل ليصلحه فسقط عليه شيء من غير فعل أحد لم يكن فيه شيء .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : وأما قوله :" والمعدن جبار " فهي المعادن التي يخرج منها الذهب والفضة ، فيجيء قوم يحفرونها بشيء مسمى لهم ، وربما انهارت عليهم المعدن فقتلهم ، فنقول : دماؤهم هدر ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : والعجماء : هي الدابة ، وإنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم ، وكذلك كل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم وأعجمي . زاد غيره : وإن كان من العرب ، ورجل أعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا ، ورجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب ، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا .

                                                                                                                                                                                                                              والجبار : الهدر الذي لا دية فيه ، وإنما جعلت هدرا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا راكب . وقد سلف نقل ابن المنذر الإجماع فيه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 486 ] وما ذكره البخاري عن حماد وشريح والشعبي أنهم كانوا لا يضمنون النفحة إلا أن تنخس الدابة . فعليه أكثر العلماء ؛ لأن ما فعلته من أذى ذلك فهي جناية راكبها أو ( سائقها ) ؛ لأنه الذي ولد لها ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : فإن رمحت من غير أن يفعل بها شيئا ترمح له ، فلا ضمان عليه . وهو قول الكوفيين والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول ابن سيرين : كانوا لا يضمنون النفحة ويضمنون من رد العنان . فالنفحة : ما أصابت برجلها أو ذنبها فقالوا : لا ضمان وإن كان بسببه ، وبين ما أصابت بيدها أو مقدمها فقالوا : عليه الضمان .

                                                                                                                                                                                                                              ولم يفرق مالك والشافعي بين الكل في وجوب الضمان على الراكب والقائد والسائق إذا كان ذلك من نخسه أو كبحه ، وذكر الداودي أن قول ابن سيرين مثل قول مالك ، وليس الأمر كذلك . إلا أن يكون رأى في ذلك شيئا ، فليس هو المعروف عنده .

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة :

                                                                                                                                                                                                                              حاصل ما للعلماء فيما تفسده البهائم إذا انفلتت ليلا أو نهارا ، ثلاثة مذاهب : الضمان مطلقا ، وهو مذهب الليث .

                                                                                                                                                                                                                              وعدمه مطلقا ، إلا أن يكون له فعل فيها ، وهو مذهب الكوفيين .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : التفصيل بين ما أفسدته نهارا فلا ضمان ، إلا أن يكون صاحبها معها ويقدر على منعها ، وبين ما أفسدته ليلا فضمانه على أرباب المواشي ، قاله مالك والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 487 ] حجة المانع إطلاق حديث الباب ، حيث لم يفرق بين جنايتها ليلا أو نهارا .

                                                                                                                                                                                                                              ( حجة الثالث حديث حزام السالف وهو نص أنه لا ضمان بالنهار ، ووجهه أنه لما كان لأرباب الماشية تسريحها نهارا ) وكان على أرباب الثمار حفظها نهارا ، فإن فرطوا في الحفظ لم يتعلق لهم على أرباب المواشي ضمان .

                                                                                                                                                                                                                              ولما كان على أرباب المواشي حفظها ليلا دون أصحاب الزروع ، وفرط أهل المواشي في ترك الحفظ لزمهم الضمان ، وعلى هذا جرت العادة ورتبه الشارع . وفيه جمع بين الحديثين ، فهو أولى الأقوال بالصواب ، إذ ليس أحدهما أولى ( بالاستعمال ) من الآخر ، فتعين ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                              فالعجماء جبار نهارا لا ليلا ؛ لحديث حرام في ( ناقة ) البراء ، وأما قول الليث فمخالف لهما .

                                                                                                                                                                                                                              فرع :

                                                                                                                                                                                                                              المعدن من العدون وهو : الإقامة ، ومنه جنات عدن . فالمعدن يقام عليه ليلا ونهارا ، وهو عروق في الأرض يستخرج منها الذهب والفضة . وفيه الربع ، خلافا لأبي حنيفة ، حيث قال : الخمس

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 488 ] كالركاز ، فإن وجد فيه ( بدرة ) .

                                                                                                                                                                                                                              فقال مالك في رواية ابن القاسم : فيها الخمس . وهو ما ذكرناه في كتاب الزكاة . وقال في رواية ابن نافع : فيها الزكاة . وقد أسلفنا هناك الفرق بينه وبين الركاز ، وحد مالك الركاز .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن القاسم عنه أن الركاز ما وجد في الأرض من قطع الذهب والفضة مخلصا لا يحتاج في تصفيته إلى عمل كان من دفن الجاهلية أم لا ، أو بما تنبته الأرض ، أو مما دفن في الأرض مخلصا غير الورق والذهب ، كالثياب وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى رواية ابن نافع أنه ما وضع في الأرض ، وأن ما وجد فيها من ( . . .) ولم يتقدم ملك فهو معدن ، وبه قال الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد : الركاز ما دفن في الأرض من الذهب والورق خاصة ، وقاله مالك مرة : أن ركاز النحاس والحديد والحرير والطيب واللؤلؤ ، وقاله ابن القاسم أيضا مرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجوهري : إنه دفين الجاهلية ، كأنه ركز في الأرض ركزا ، أي : غرز .

                                                                                                                                                                                                                              وقال صاحب " العين " : الركاز : لما وضع في الأرض ، ولما يخرج من المعدن من قطع ذهب وورق ، وأما تراب المعدن فلا نعلم أحدا من أهل اللغة سماه ركازا ، كما ذكره ابن التين وقال : إنه يرد على أبي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 489 ] حنيفة ؛ لأنه يقول : الركاز : اسم لما يخرج من المعدن لما يوضع في الأرض من المال المدفون .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : اختلف قول مالك فيما يلقيه البحر من عنبر أو جوهر ، فقال : فيه الخمس . وقال : لا شيء فيه ، وهذه قولة لم تعرف لمالك ، وإنما قال فيه الخمس عمر بن عبد العزيز وأبو يوسف وإسحاق والزهري .

                                                                                                                                                                                                                              ( وقال الزهري ) : إن وجد عنبرة على ضفة بحر خمست ، وإن غاص فيها لم تخمس ، ولا شيء فيها . وقد أوضحنا الكلام على ذلك في الزكاة فراجعه .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية