الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل الآيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الطيالسي والفريابي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في “ الدلائل “ عن ابن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال : سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على نبيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني . قالوا : فذلك لك، قالوا : أربع خلال نسألك عنها، أخبرنا أي [ ص: 476 ] طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة؟ وكيف الأنثى منه والذكر؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم؟ ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا طال سقمه فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه، ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم، فقال : اللهم اشهد، قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم، قال : اللهم اشهد . قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن النبي الأمي هذا تنام عيناه، ولا ينام قلبه؟ قالوا : نعم، قال : اللهم اشهد عليهم، قالوا : أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نتابعك أو نفارقك . قال : وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا : فعندها نفارقك لو كان وليك سواه من [ ص: 477 ] الملائكة لاتبعناك وصدقناك، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : هو عدونا، فعند ذلك أنزل الله تعالى : من كان عدوا لجبريل إلى قوله كأنهم لا يعلمون فعند ذلك باءوا بغضب على غضب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في " المصنف " وإسحاق بن راهويه في " مسنده "، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : نزل عمر بالروحاء، فرأى ناسا يبتدرون أحجارا، فقال : ما هذا؟ فقالوا : يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى هذه الأحجار . فقال : سبحان الله، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا راكبا، مر بواد فحضرت الصلاة فصلى . ثم حدث فقال : إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم، فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك تأتينا . قلت : وما ذاك إلا أني أعجب من كتب الله كيف يصدق بعضها بعضا! كيف تصدق التوراة الفرقان والفرقان التوراة! فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم يوما وأنا أكلمهم، [ ص: 478 ] فقلت : أنشدكم بالله وما تقرءون من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قالوا : نعم، فقلت : هلكتم والله تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه! فقالوا : لم نهلك ولكن سألناه من يأتيه بنبوته، فقال : عدونا جبريل لأنه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك ونحو هذا . فقلت : فمن سلمكم من الملائكة؟ فقالوا : ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة وكذا . قلت : وكيف منزلتهما من ربهما؟ فقالوا : أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر . قلت : فإنه لا يحل لجبريل أن يعادي ميكائيل، ولا يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا، وحرب لمن حاربوا . ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن أخبره فلما لقيته قال : ألا أخبرك بآيات أنزلت علي؟ قلت : بلى يا رسول الله، فقرأ من كان عدوا لجبريل حتى بلغ للكافرين قلت : يا رسول الله، والله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لأخبرك بما قالوا لي، وقلت لهم، فوجدت الله قد سبقني، صحيح الإسناد، ولكن الشعبي لم يدرك عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة قال : كان عمر يأتي يهود يكلمهم، فقالوا : إنه ليس من أصحابك أحد أكثر إتيانا إلينا منك، فأخبرنا من صاحب صاحبك الذي يأتيه بالوحي؟ فقال : جبريل، قالوا : ذاك عدونا من الملائكة، ولو أن صاحبه صاحب صاحبنا لاتبعناه . فقال عمر : ومن صاحب صاحبكم؟ [ ص: 479 ] قالوا : ميكائيل، قال : وما هما؟ قالوا : أما جبريل فينزل بالعذاب والنقمة، وأما ميكائيل فينزل بالغيث والرحمة، وأحدهما عدو لصاحبه، فقال عمر، وما منزلتهما؟ قالوا : هما من أقرب الملائكة منه، أحدهما عن يمينه وكلتا يديه يمين، والآخر عن الشق الآخر، فقال عمر : لئن كانا كما تقولون، ما هما بعدوين . ثم خرج من عندهم فمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقرأ عليه من كان عدوا لجبريل الآية، فقال عمر : والذي بعثك بالحق إنه الذي خاصمتهم به آنفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به، فقال عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم . وسألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبريل . قالوا : ذاك عدونا من الملائكة يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة، ولكن صاحبنا ميكائيل، وإذا جاء جاء بالخصب والسلم، فتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية : قل من كان عدوا لجبريل الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 480 ] وأخرج ابن جرير عن السدي قال : لما كان لعمر أرض بأعلى المدينة فكان يأتيها، وكان ممره على مدراس اليهود، وكان كلما مر دخل عليهم فسمع منهم، وإنه دخل عليهم ذات يوم فقال لهم : أنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا عندكم؟ قالوا : نعم، إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي جبريل، وجبريل عدونا وهو صاحب كل عذاب وقتال وخسف، ولو كان وليه ميكائيل لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث، قال عمر : فأين مكان جبريل من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه عدو للذي هو عن يساره، والذي هو عدو للذي هو عن يساره عدو للذي هو عن يمينه، وإنه من كان عدوهما فإنه عدو لله، ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه قل من كان عدوا لجبريل الآية، فقال عمر : والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن يهوديا لقي عمر فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ ص: 481 ] قال : فنزلت على لسان عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، والبيهقي في “ الدلائل “ عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ؛ ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه؟ قال : أخبرني جبريل بهن آنفا . قال : جبريل؟ قال : نعم . قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك قال : أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه وأمه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ ص: 482 ] يقول : فإن جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك ويربط به على قلبك مصدقا لما بين يديه يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها والآيات والرسل الذين بعثهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : مصدقا لما بين يديه . قال : من التوراة والإنجيل وهدى وبشرى للمؤمنين قال : جعل الله هذا القرآن هدى وبشرى للمؤمنين؛ لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعده فيه، وكان على يقين من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير من طريق عبيد الله العتكي، عن رجل من قريش قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود، فقال : أسألكم بكتابكم الذي تقرءون هل تجدونه قد بشر بي عيسى أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا : اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك؛ لأنك تستحل الأموال وتهريق الدماء فأنزل الله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية