الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 416 ] 48 - قالوا : أحاديث متناقضة

        مزح النبي صلى الله عليه وسلم وجده

        قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أنا من دد ولا الدد مني .

        وأن عبد الله بن عمرو قال له : أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب ؟ فقال : نعم إني لا أقول في ذلك كله إلا الحق ، ثم رويتم أنه كان يمزح ، وأنه استدبر رجلا من ورائه فأخذ بعينيه ، وقال : من يشتري مني هذا العبد ، ووقف على وفد الحبشة فنظر إليهم وهم يزفنون ، وعلى أصحاب الدركلة وهم يلعبون ، وسابق عائشة - رضي الله عنها - فسبقها تارة وسبقته أخرى .

        [ ص: 417 ] جاء النبي بالحنيفية السمحة :

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إن الله - عز وجل - بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة ، ووضع عنه وعن أمته الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل في دينهم ، وجعل ذلك نعمة من نعمه التي عددها ، وأوجب الشكر عليها وليس من أحد فيه غريزة إلا ولها ضد في غيره ، فمن الناس الحليم ، ومنهم العجول ، ومنهم الجبان ، ومنهم الشجاع ، ومنهم الحيي ، ومنهم الوقاح ، ومنهم الدمث ، ومنهم العبوس .

        وفي التوراة أن الله تعالى قال : إني حين خلقت آدم ركبت جسده من رطب ، ويابس وسخن وبارد وذلك لأني خلقته من تراب وماء ، ثم جعلت فيه نفسا وروحا .

        فيبوسة كل جسد خلقته من التراب ورطوبته من قبل الماء ، وحرارته من قبل النفس ، وبرودته من قبل الروح ، ومن النفس حدته وخفته وشهوته ولهوه ولعبه وضحكه وسفهه وخداعه وعنفه وخرقه ، ومن الروح حلمه ووقاره ، وعفافه وحياؤه ، وفهمه وتكرمه ، وصدقه وصبره ، أفما ترى أن اللعب واللهو من غرائز الإنسان والغرائز لا تملك ، وإن ملكها المرء بمغالبة النفس وقمع المتطلع منها لم يلبث إلا يسيرا حتى يرجع إلى الطبع ، الطبع أملك .

        وكان يقال : " الطبع أملك " ، وقال الشاعر :


        ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه يدعه ويغلبه على النفس خيمها



        [ ص: 418 ] وقال آخر :


        يا أيها المتحلي غير شيمته     ومن خليقته الإقصاد والملق
        ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه     إن التخلق يأبى دونه الخلق

        وقال آخر :


        كل امرئ راجع يوما لشيمته     وإن تخلق أخلاقا إلى حين

        وأنشد الرياشي :


        لا تصحبن امرأ على حسب     إني رأيت الأحساب قد دخلت
        ما لك من أن يقال إن له     أبا كريما في أمة سلفت
        بل فاصحبنه على طبائعه     فكل نفس تجري كما طبعت



        والله - عز وجل - يقول : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا .

        وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل .

        الناس يقتدون برسول الله :

        وكان الناس يأتسون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقتدون بهديه وشكله ؛ لقول الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، فلو ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء .

        [ ص: 419 ] فمزح - صلى الله عليه وسلم - ليمزحوا ووقف على أصحاب الدركلة وهم يلعبون فقال : خذوا يا بني أرفدة ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة ، يريد ما يكون في العرسات لإعلان النكاح وفي المآدب لإظهار السرور .

        وأما قوله : ما أنا من دد ولا الدد مني فإن الدد اللهو والباطل ، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا ، وإذا لم يقل في مزاحه إلا حقا ، لم يكن ذلك المزاح ددا ولا باطلا .

        قال لعجوز : إن الجنة لا يدخلها العجز . يريد أنهن يعدن شواب ، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأخرى : زوجك في عينيه بياض ، يريد ما حول الحدقة من بياض العين ، فظنت هي أنه البياض الذي يغشى الحدقة ، واستدبر رجلا من ورائه وقال : من يشتري مني العبد ؟ يعني أنه عبد الله .

        ودين الله يسر ليس فيه بحمد الله ونعمته حرج ، وأفضل العمل أدومه وإن قل .

        تكليف النفس بما تطيق :

        قال أبو محمد : حدثنا الزيادي قال : حدثنا عبد العزيز الدراوردي قال : حدثنا محمد بن طحلى ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اكلفوا من العمل ما تطيقون ؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أفضل العمل أدومه وإن قل .

        [ ص: 420 ] وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال : حدثنا عمر بن علي بن مقدم ، عن معن الغفاري ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا .

        حدثني محمد بن عبيد قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن مسلم بن يسار : أن رفقة من الأشعريين كانوا في سفر ، فلما قدموا قالوا : يا رسول الله ما رأينا أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من فلان يصوم النهار ، فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل . قال : من كان يمهن له ويكفيه أو يعمل له ؟ قالوا : نحن ، قال : كلكم أفضل منه . وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام المجانب للقذع والشتم والكذب .

        فكان علي - رضي الله عنه - يكثر الدعابة ، وكان ابن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه ، وقال جرير في الفرزدق :


        لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا     ولو رضيت رمح استه لاستقرت



        وقال الفرزدق وتمثل به ابن سيرين :

        نبئت أن فتاة كنت أخطبها     عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
        أسنانها مائة أو زدن واحدة     وسائر الخلق منها بعد مبطول



        [ ص: 421 ] وسأله رجل عن هشام بن حسان فقال : توفي البارحة ، أما شعرت ؟ فجزع الرجل واسترجع ، فلما رأى جزعه قرأ : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، وكان زيد بن ثابت من أزمت الناس إذا خرج وأفكههم في بيته .

        وقال أبو الدرداء : إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من الحق ما يملها ، وكان شريح يمزح في مجلس الحكم ، وكان الشعبي من أفكه الناس ، وكان صهيب مزاحا ، وكان أبو العالية مزاحا ، وكل هؤلاء إذا مزح لم يفحش ، ولم يشتم ولم يغتب ولم يكذب ، وإنما يذم من المزاح ما خالطته هذه الخلال أو بعضها ، وأما الملاعب فلا بأس بها في المآدب .

        قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال .

        اللعب والغناء :

        قال أبو محمد : حدثنا أبو الخطاب قال : حدثنا مسلم بن قتيبة قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عكرمة قال : ختن ابن عباس بنيه ، فأرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا ، فأعطاهم أربعة دراهم .

        [ ص: 422 ] وحدثني أبو حاتم ، عن الأصمعي ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه قال : قلت لخارجة بن زيد : هل كان الغناء يكون في العرسات ؟

        قال : قد كان ذاك ولا يحضر بما يحضر به اليوم من السفه ، دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم فشهد المدعاة حسان بن ثابت وابنه عبد الرحمن ، وإذا جاريتان تغنيان :


        انظر خليلي بباب جلق هل     تونس دون البلقاء من أحد



        فبكى حسان وهو مكفوف وجعل يومي إليهما عبد الرحمن أن زيدا ، فلا أدري ماذا يعجبه من أن يبكيا أباه .

        حدثنا أبو حاتم ، عن الأصمعي قال : كان طويس يتغنى في عرس ، فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يقول :


        أجد بعمرة غنيانها     فتهجر أم شأننا شأنها



        وعمرة أم النعمان ، فقيل له : اسكت اسكت . فقال النعمان : إنه لم يقل بأسا ، إنما قال :

        وعمرة من سروات النسا     ء تنفح بالمسك أردانها



        التالي السابق


        الخدمات العلمية