الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [69] أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون

                                                                                                                                                                                                                                      " أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم أي: [ ص: 2771 ] أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا بعدهم، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى شحر عمان - كذا قالوا -: وزادكم في الخلق بسطة " أي: قامة وقوة. فاذكروا آلاء الله " أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة لعلكم تفلحون " أي تفوزون بالفلاح.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم، على ما يكون منهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله جل شأنه مخاطبا لقوم عاد : وزادكم في الخلق بسطة فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها. وهذا من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتا قريبا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتا كبيرا، مساكن ثمود [ ص: 2772 ] قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية، ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في (مقدمة تاريخه)، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساما تناسب ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره. وأنكر أيضا ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن ، بناها شداد بن عاد حيث سمع وصف الجنة. وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها (إرم ذات العماد)، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن ، وإنما حجبت عن الأبصار. وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل -كذا أفاده بعض المحققين-.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام، بقوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2773 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية